من منّا لا يُقابله في طريقه هؤلاء العابرون، عبثية كلماتهم لا تكاد أن تفهم حرفا واحدا منهم، ملابسهم مهترءة كأرواحهم وعقولهم التي مذَّقتها نوبات الحياة المتوالية، حتى أثقلت القلوب بالهم والحزن، ولم يبق لهم سوى كلمات من الذاكرة محفورة في العقول ورغم انَّ العقول غابت في الجُب، وألقتها الأيام في بئر النسيان، لكنَّها مازالت بعض الكلمات هذه بارزة مترددة بشكل لا إرادي على ألسنتهم.
وهم أيضًا طبقات، فمن يمُر بجوار منطقة السيدة والحسين يجد أصدقاءنا أولئك لملابسهم وألفاظهم شأن، ومنطقة مصر الجديدة وجاردن سيتي والزمالك "وهُمّ نادرون" لسماتهم شأن يطابق شأن ساكنيها، ربما إنّ ركزت معاها قليلاً تـتَكشف أمامك بعض سرائرهم، نعم أقصد أولئك الذين يصفهم البعض كلٌ حسب نمطية ما تربى عليه، فالبعض يُلقبَـهُم:- " دراويش أو مجاذيب، وآخرون " معاتيه " وآخرون بقول صريح "مجانين" في دعنا نسأل كما سأل النجيب "نجيب محفوظ" على لسان بطل قصته " همس الجنون" ما الجنون؟.
في القصة تلك أجلىَ لنا نجيب محفوظ، مراحل مرّ بها بطل قصته، انَّ الأمر بدأ بسؤال ما الحُرية؟، ومن ثَمَّ انتقل إلى مرحلة أخرى أنه يكون حرّ، ويفعل ما يُريد ووقف أمام نفسه بالمرآة متحدثاً عن ملبسه لما يُقيد نفسه به، وبعد حين نَزل إلى الشارع وسأل أيضًا لما لا أرفع قدمي اليُمنى ويدي اليسرى؟ فلا يَهم ما يقول الناس وعلى هذه الوتيرة يفعل ما يحلوا له، ظل يمشي ويسأل لما لأ أضرب ذلك المغرور على "قفاه"، لما هؤلاء الناس يأكلون كل هذا وهؤلاء الفقراء ينظرون إليهم ثم لما لا ألمس ثدي هذه المرأة البضة، ثم لما أتقيد ملابس وما رأه الناس من ذلك سوى جنون برغم أنه كان يُريد أن يكون حرًا بلا قيود، فتحوَلت أسألته من همس إلى جنون، فنعَـتهُ الآخرون بالجنون.
فكذلك خلف كل من هؤلاء قصته الخاصة، فلا تُشغل بالك بملبسه وألفاظه البذيئة تلك، بقدر ما تعلم أنها نهاية حتّمية لأمل بأن ما في يدك لنّ يزول، فالإنسان حين يَملك شيئا يُصبح كالطفل معه لعبته بمجرد أن يفقدها يهرع للبكاء والصراخ، فكُنٔ على موعد دوماً مع مبدأ أن كل شىء إلى زوال، واتّـبع قول حافظ الشيرازي "لا شىء يستحق الحُزن".