أثناء توقف السيارة بإحدى إشارات المرور فى طريقى إلى عملى صباحا، لفتت انتباهى تلك الفتاة ذات القميص الأبيض الناصع صاحبة الخطوة الواثقة والرأس المرفوعة، تنظر إلى الأمام وتمشى فى همة وثقة، تضرب خطواتها الأرض من تحتها لتنبت أملا.
جذب انتباهى حيويتها وسط المارين بجوارها فمنهم من كان يحمل حقيبته فى يده ويسير شاردا ناظرا إلى الأرض ومنهم من كانت تسير مع رفيقاتها وعيناها زائغتان يمينا ويسارا وكأنها تحاول أن تتفقد كيف ينظر الناس إليها ومنهم من كانت تسير تتحسس ملابسها وشعرها.
لا أعرف تحديدا ما هو أول شىء لفت نظرى إلى ذات القميص الأبيض ولكننى لم أتوقف عن ملاحظتها بإعجاب حتى غابت عن عينى بعد أن فوجئت أن الكم الأيمن لقميصها فارغا !
نعم كانت هذه الفتاة الرائعة بلا ذراع أيمن ولكننى أوقن أنها لا تشعر كما يراها الكثير بأنها غير مكتملة ولم تطفئ نظرة الشفقة التى قد تلاحقها وهج ثقتها بنفسها أو إقبالها على الحياة.
الذى أدهشنى فعلا هو أننى لم أشعر تجاهها بالشفقة التى اعتادت أن تتبادر تلقائيا إلى قلبى حين أرى شخصا قد حرم من جزء من جسده، فى حين أننى فعلا أشعر بالشفقة تجاه أصحاء قد استطاع الآخرون سلبهم ثقتهم فى أنفسهم وفى قدراتهم.
وبطبيعة الحال كان لابد أن يحضرنى عميد الأدب العربى الدكتور "طه حسين" الذى لا أكاد أذكره يوما إلا وتنفرج أسارير قلبى ويتجدد فى روحى الاحساس بالجمال. لا أتصور أبدا أن يشعر من يقرأ لطه حسين أنه يقرأ لكاتب فقد بصره فى طفولته المبكرة فقد كان لديه إحساس مبصر بجمال الكون وتفاصيله ليرسم به لوحات أدبية رائعة. فضلا عن مسيرة حياته الغنية بالتحدى والإصرار وإيمانه بعظمه قدراته التى أركعت اليأس أمامه.
أرى أن القوة الحقيقية والقدرة على تذوق الجمال منبعهما بداخلنا فإن لم تؤمن بنفسك وبقدراتك وباستحقاقك للحياة فلن تستطيع أن تحرك ساكنا حتى وإن كنت تملك مؤهلات النجاح.
وفى الأخير.. سلام على كل المؤمنين بأنفسهم والواثقين باستحقاقهم للحياة.