كم يكره هذا الشارع حيث يعيش بمنزله المتواضع، لعل التواضع أصبح سمة ملازمة لحياته ومسكنه والشارع الذى يقطنه.
يخشى كثيرا أثناء عودته بعد منتصف الليل من عمله الثاني، لحظة أن ينتهى من عبور الميدان المفعم بالحركة، ليدلف لشارع جانبى، الحق أن كلمة شارع أطلقت عليه من باب المجاملة فهو أقرب لحارة أو سرداب طويل معتم، تجاهلته المحليات فلم تمتد له يد بإصلاح أو إنارة، فامتلأ حفر ومطبات ما يفوق عدد البشر المارة به طوال اليوم، يقفز ذات اليمين وذات اليسار، فى حركات إيقاعية يحسده عليها راقصو البالية، ويتقمص دور البهلوان ولاعبى السيرك كى يصل بأقل قدر من الخسائر لمنزله المتهالك، على أن مساوئ الشارع لا تقتصر على بضعة مطبات وحفر، بقدر ما يحمل من قتامة وظلام مقيم طول اليوم، فلم نعرف شارعا يغط فى ظلام أو ظلال متراكمة على جوانبه، بينما الشمس فى كبد السماء، كهذا الشارع.
لكن ما يخشاه أمر آخر، خبره طويلا وعايشه كثيرا، إنها تلك الاشباح التى تتراءى له ليلا، تسير بجواره، يراها رأى العين، تهمس له بحديث لا يفهمه، تقترب منه فيرى عيونها تقدح شررا، وتستمر فى الاقتراب منه، حتى تتخطاه، وتختفى وتتبدد فى الهواء كدخان.
ينتفض فزعا كل ليلة وهو يعبر الشارع، عشرات الأمتار، يجتازها كما لو كان يهرول بضعة كيلومترات، يتصبب عرقا، يكاد قلبه يخرج من صدره. يلعن فى سره ضيق ذات اليد وضآلة المرتب وحقارة الوظيفة التى أعوزته للسكنى بهذا الشارع، وأجبرته على عمل موازٍ يرهقه من أمره عسرا ويجبره على مسايرة أشباح يراها هو فقط.
يصل لبيته، يائسا، مرهقا، يجاهد حتى يصل لسريره، ليسقط عليه من الاعياء كحجر هوى من شاهق، ليصحو صبيحة اليوم التالى، لا يتذكر شيئا، فقط مقاطع بصرية تبعث بداخله قلق خفى يستمر معه طيلة النهار حتى منتصف الليل، حتى يعبر الميدان الشهير ويصل لبداية الشارع، فيتذكر كل شىء كما لو كان وحيا هبط عليه.. ليستمر الفزع وتتجدد المعاناة.