فى هذه القرية القابعة فى أقصى صعيد مصر، معظم مبانيها تغيرت من الطوب اللبن إلى المبانى الخرسانية الحديثة. لكن هذا المكان ظل كما هو، لم يطرأ عليه تغيير منذ عشرات السنين، إنها الطاحونة القديمة، مبنى قديم على مساحة قيراطين من الأرض، به بقايا من الآلات القديمة التى كانت تستخدم فى توليد الحركة للطاحونة وماكينة الرى.
ظل هذا المكان على حاله صامداً أمام تغيرات الزمن وأمام تغيرات المبانى التى حوله. يجلس أمامه رجل عجوز تجاوز الثمانين، يجلس من الصباح حتى المساء أمام الطاحونة القديمة يأتيه أحفاده بالطعام والشراب، لا يبرح مكانه إلا للنوم أو لأمر ضرورى.
هكذا عهدنا عم إسماعيل على حاله منذ كنا أطفالاً. يحرس الطاحونة لا أحد يعلم سر عم إسماعيل الذى يجعله صامداً على حاله طوال هذه السنوات.
كثرت فى القرية التكهنات طوال هذا الزمن حول السر وراء شراء عم إسماعيل الطاحونة المهجورة. منذ أواخر القرن الماضى، اشتراها بثمن مرتفع جداً فى حينها، فقد باع معظم أرضه من أجل شراء هذه الطاحونة. قال الناس لعله يعلم أن كنزاً مدفون تحت الطاحونة، وقال البعض لعله متزوجاً من جنية تسكن الطاحونة.
كثرت الأقاويل، ولكن مرور الزمن أسكت كل هذه التكهنات، وظل عم إسماعيل الرجل الصامت طوال الوقت. نظره متطلع دائماً داخل الطاحونة دون أن يدخلها، وكأنه يخاف شيئاً.
عم إسماعيل ارتبط بالطاحونة وارتبطت الطاحونة به، مكان مهجور ورجل هجر الدنيا ليجلس أمام هذا المكان.
فى أحد الأيام قررت أن أقترب منه وأحاول أن أعرف سر طاحونته هذه وسر جلوسه أمامها. ذهبت إلى الطاحونة وجدته جالساً حيث اعتاد الجلوس. ألقيت عليه السلام، رد السلام ونظره لم يتحول عن داخل الطاحونة.
نظرت إلى وجهه، تجاعيد كثيرة أبدعت السنوات فى رسمها على وجهه خطوط بالعرض وأخرى بالطول، رسومات تدل على قسوة من حفرها على وجه ذلك العجوز.
حاولت فتح حواراً معه دون جدوى. ولجأت إلى حيلة فقلت له: ما رأيك أن تبيع لى هذه الطاحونة ؟ فقال: لا يمكن أن أبيعك هذه الطاحونة، فهى ذنبى الذى لا يمكن أن يتحمله عنى أحد. وكأن الكلمات التى ظلت حبيسة داخل هذا الرجل أرادت أن تخرج لترى النور فى هذه اللحظة.
قلت له وما هو هذا الذنب يا عم إسماعيل ؟ فبدأ يقول: فى بداية السبعينيات كنت أعيش سعيداً مع أسرتى وأولادى وكانوا أربعة: ثلاثة أولاد وبنتاً واحدة اسمها ملوك وقد سميتها بهذا الاسم لأنى كنت أريدها أن تعيش مثل الملوك.
كان عمرها ثلاثة عشر عاماً، جميلة مثل القمر، أُحضر لها أجمل الثياب فقد كنت ميسور الحال. كانت زهرة البيت وملكته.
وفى يوم من الأيام لاحظت أمها ـ رحمها الله ـ أن بطنها تزداد نمواً يوماً بعد يوم.
قلقت أمها وأخبرتنى بهذا الأمر، فقررنا أنا ووالدتها عرضها على الداية، لمعرفة هل فرطت فى شرفها أم لا ؟ وكم كانت قاسية هذه اللحظة على، وكم بكت ملوك وهى تقول والله ما لمسنى أحد، فى قسوة أمسكتها أنا ووالدتها للداية وبعد فحصها قالت لنا: البنت مازالت بكراً.
فرحنا أشد الفرح، وعلمنا أن ملوك لم تفرط فيما تملك.
لكن فرحتنا لم تكتمل فبطنها تزداد نمواً مع الأيام، ووصل حجم بطنها كامرأة أوشكت على الوضع.
لم يكن أمامى أنا وأمها إلا الجزم بأن ملوك قد حملت سفاحاً.
كل هذا وملوك تزداد شحوباً والألم يعتصر بطنها، لكنها لا تقوى حتى على الصراخ من الألم، خوفاً من بطش والدها.
فى ليلة اختفى منها القمر واختفت معها مشاعر الأبوة. قررنا إنهاء حياة ملوك الصغيرة بدعوى الزنا، نعم فقد تيقنا من حملها رغم محاولة الصغيرة إثبات العكس.
فى هذه الليلة رسمت خطة لقتل الصغيرة والتخلص من عارها للأبد.
أخذتها فى منتصف الليل إلى الطاحونة المهجورة. مازالت نظرتها إلى أذكرها كما لو كانت اليوم. نظرة استعطاف وإنكار وهى تقول لى: والله إنى مظلومة يا أبى.
بضربة على رأسها بالفأس أنهيت حياتها وكذلك أنهيت حياتى معها. لم أستطع دفن جثتها ،فخبأتها فى الطاحونة ورجعت إلى البيت ووجدت أمها تبكى بكاءاً بلا صوت، وقد تأكدت من تنفيذى لحكم الإعدام، ظلت تبكى طوال الليل ظلت تبكى ملوك الصغيرة.
وفى الليلة الثانية قررت أن أذهب لأحفر لها وأدفنها، وصلت إلى الطاحونة، فإذا بمجموعة من الذئاب تنهش جسد الصغيرة. أسرعت بإخافة الذئاب وأشعلت ناراً حتى هربت. حاولت أن أدافع عنها وهى جثة، وأنا الذى لم استطع حمايتها من مصيرها هذا.
يحكى عم إسماعيل وعيناه لا تكفان عن البكاء وكأن ملوك ماتت بالأمس.
لم أحاول تهدئة عم إسماعيل أو مقاطعته فى حكايته حتى لا يتوقف عن الحديث.
سكت عم إسماعيل لبضع دقائق وكأنه أراد بسكوته إيقاف هذه الذكريات الحزينة.
ثم أكمل قائلاً :
هربت الذئاب ووجدت ملوك جسداً قد مزقته الذئاب، ووجدت أحشاءها تخرج من بطنها. لملمت أشلاءها وأمسكت ما كان فى بطنها، إنه الجنين الذى حملته لتحمل معه نهايتها ونهايتى.
النار مازالت مشتعلة حتى لا تقترب الذئاب ثانية، اقتربت بالجنين أمام النار لأرى ملامحه. فإذا به كتلة من اللحم لا يوجد ما يدل على أنها لجنين.
حفرت قبراً لملوك ودفنت بقاياها به، دفنته هنا، فى هذه الزاوية من الطاحونة. وأخذت معى كتلة اللحم هذه إلى البيت، ولم أستطع أن أحكى لأمها ما حدث أو أن أجعلها ترى ما أحضرت معى، وفى الصباح الباكر ذهبت للمدينة حيث هناك طبيب من القاهرة ويقال عنه إنه طبيب ماهر.
دخلت إليه فى عيادته وأخرجت له كتلة اللحم هذه. أنزعج الطبيب، عندها سألته ما هذا الشيء ؟ تفحص الطبيب قطعة اللحم هذه، وقال هذا ورم ليفى. وبعد إلحاح من الطبيب حكيت له القصة، فأخبرنى بأن ابنتى قُتلت مظلومة، فما كان فى أحشائها ليس جنيناً، بل ورم كان يزداد كل يوم حجماً وتزداد معه معاناة الصغيرة وألمها.
طلب الطبيب أن أترك له هذا الورم، إلا أننى قلت له سأدفن سر براءتها معها، حتى تحاججنى به يوم القيامة أمام الله.
رجعت إلى القرية وفى المساء دفنت سر البراءة معها. وقررت شراء الطاحونة مهما تكلف الأمر، ومن ساعتها وأنا أحرس ملوك وأرجو منها أن تصفح عنى.
أكمل عم إسماعيل قصته، أحسست أنه كان يحمل هم الدنيا كله فى قلبه. وأنه قد شعر ببعض الراحة بالحديث عنها.
سألته لماذا لم تحكى قصتك قبل الآن ؟ ولماذا فى هذا التوقيت ؟
قال عم إسماعيل: منذ ثلاثة أيام سمعت فى التلفاز وأنا أوشك على النوم، طبيب يحكى قصة حدثت مع والده الطبيب تشبه قصتى هذه، فذهبت إلى التلفاز فإذا به ابن ذلك الطبيب الذى ذهبت إليه. عرفته من اسمه.حكى قصتى مع ملوك وهو يتكلم عن أورام الرحم.
لقد مات كل أبطال القصة ولم يبقى إلا القاتل، لم يبقى إلا أنا. أحمل ذنبى ولا أستطيع التكفير عنه.
قلت هون عليك يا عم إسماعيل وأخبرنى لماذا لا تحرس الطاحونة بالليل، ألا تخشى الذئاب ؟
قال يا ولدى إن الذئاب أرادت فقط أن تبرأ ملوك، لم تأكل من جسدها شيئاً.
هى فقط أرادت الحقيقة.
عند هذا توقفت عن الأسئلة وتركتُ عم إسماعيل يحرس طاحونته ويطلب العفو من ابنته ملوك.