تتعرض مصر بين آونة وأخرى لسلسلة من الفتن والاضطرابات بين مسلميها وأقباطها، وعلى الرغم من الإيذاء النفسى والوجدانى الذى تحدثه تلك الفتن فى قلوب المصريين جميعا فالحقيقة أنها تؤدى إلى مزيد من الرباط الدينى الذى يجمع بيننا منذ القدم.
فالتاريخ يشهد بأن العلاقة بين الإسلام والمسيحية كان لها طابع إيجابى منذ بداية الدعوة الإسلامية، وقد مارس الإسلام التعامل مع المسيحية من منطلق القواسم المشتركة حيث نعيش على أرض واحدة ونتنسم هواء واحداً، ونشهد مصير واحد، وقد ساهم فى تحسين هذه العلاقة وتطويرها ذلك الاحترام الكبير والثقة التى أولاها رسولنا الكريم لأتباع المسيحية، وقد تمثل ذلك فى دعوته لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فوجدوا لدى النجاشى المسيحى موئلا وكرامة.
وستظل آيات القرآن الكريم التى تتحدث عن السيد المسيح شاهدة على مكانته العظمى فى الإسلام وفى صدور المسلمين، ولا يخفى تعلق قلوب المسلمين بالسيدة مريم أم المسيح عليه السلام التى تقبلها الله بقبول حسن واصطفاها وجعلها سيدة نساء العالمين لعبادتها وتسليمها لله. وقد حدثنا القرآن الكريم فى آياته الشريفة عن اصطفاء الله تعالى لمريم فجزاها الله بأن أنعم عليها من رزقه تعالى، فكلما دخل عليها زكريا (عليه السلام) محرابها - الذى شهد على قنوتها وحبها لله - وجد عندها رزقا، وحين يسألها تجيبه أنه من عند الله، وهى التى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى حقها: (حسبك من نساء العالمين: مريمُ ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون) وانظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف بدأ بالبتول مريم عليها السلام.
وقد جاء العهد الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران مفعماً بمعانى الحب والعطاء، فقد جاء فيه: (إن على أن أحمى جانبهم وأذبّ عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان، وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا؛ من بر أو بحر، شرقا وغرباً، بما أحفظ به نفسى وخاصتي، وأهل الإسلام، وأن أدخلهم فى ذمتى وميثاقى وأمانى من كل أذى ومكروه. وأن أكون من ورائهم، ذابا عنهم كل عدو يريدنى وإياهم بسوء، بنفسى وأعوانى وأتباعى وأهل ملتى ).
وهناك عدد من الآيات القرآنية التى تخص أتباع المسيحية تقشعر لها الأبدان من حلاوة التعبير فتذكر خصائصهم الروحية وإنسانيتهم الرقيقة وذلك فى قول الله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) وفيها بيان من رب العالمين إلى المسلمين ليعرفوا مَن مِن الأديان الأخرى أقرب إليهم فى الرحمة والمودة والحب.
وكذلك فإن أقوال الرسول فى عدم إيذاء أهل الذمة لا تحصى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس ؛ فأنا حجيجه يوم القيامة ) ( رواه أبو داود 3052 ) إنها دعوة من رسول كريم إلى المساواة والعدالة والتراحم.
ثم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، قدم خلفاؤه وأتباعه نماذج رائعة للتعايش مع أتباع الديانة المسيحية، نالت تقديراً وإعجاباً من كافة المفكرين على مر التاريخ.
وإذا نظرنا إلى مفهوم التسامح بكافة ابعاده نجده ماثلاً أمامنا فى القواسم المشتركة بين النصوص الواردة فى الإنجيل وما يقابلها فى القرآن الكريم، فقد جاء فى إنجيل متى 5/44: أحبوا أعداءكم، وباركوا لاعنيكم وأحسنوا معاملة الذين يبغضونكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويضطهدونكم. وقد ورد هذا النص فى حق من يعادى المسيحى فكيف بمن يحترمه ويصونه ويحيا بجواره.
وأمر القرآن بالإحسان للناس جميعاً فقال تعالى: ( ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم ).
كما اتفق الإنجيل والقرآن فى التشبيه بدخول الجمل فى سم الخياط فجاء فى إنجيل لوقا 18 / 25: " لأن دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله) ونجد ما يقابله فى النص القرآنى فى سورة الأعراف فى قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ) ) الأعراف:40(
وأيضاً فقد اتفقا على قيمة الصدقة المخفية فجاء فى متى 6/3: "فعندما تتصدق على أحد، فلا تدع يدك اليسرى تعرف ما تفعله اليمنى ".
ويقابل هذا النص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السبعة الذين يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه
وهذه النصوص إن دلت على شيء فإنما تدل على التوافق فى الدعوة إلى السماحة والقيم النبيلة التى تبنى ولا تهدم، وتصلح ولا تخرب.
وفى حقوق أهل الذمة يقول ابن عابدين فى حاشية الدر المختار "بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمى أشد".
ويقول القرافى فى الفروق: "عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم، لأنهم فى جوارنا وفى خفارتنا، وذمة الله تعالى، وذمة رسوله " ص"، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فى عِرْض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك؛ فقد ضيع ذمة الله تعالى، وذمة رسوله ، وذمة دين الإسلام".
لذا فإنه من واجبنا أن نقف صفًّا واحداً - مسيحيين ومسلمين - فى مواجهة كل ما يدعو إلى الفرقة أو الفتنة بين أبناء الوطن الواحد.
ويقينى أن سبب ما يشوب هذه العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد هو ذلك السلوك المشين الصادر من الأشخاص الذين تتنافى أيديولوجياتهم مع قيم ومبادئ الأديان السامية.
والحقيقة فإن الواقع يفرض علينا العمل من أجل تفعيل القيم الدينية التى أمرنا بها رب العالمين، والتطرق إلى الرؤى المتعلقة بالمصالح الدنيوية المشتركة، فنحن نواجه مصيرا مشتركا، ولن يتحقق ذلك إلا بالالتزام بتعاليم شرائعنا وقيمها بعيدا عن عبث العابثين، فالحقيقة التى لا يُخْتَلَف عليها أن وطننا واحد وإلهنا واحد.
وفى الختام نأمل أن يكون اللقاء الأخير الذى جمع بين شيخ الازهر وبابا الفاتيكان فى روما - مايو 2016 - بداية لتفعيل ونشر ثقافة التعايش والتسامح والسلام بين مختلف شعوب الأرض.
• أستاذ ورئيس قسم مقارنة الأديان - بجامعة الزقازيق