نحن في العد التنازلي، ونبلغ شهر رمضان الكريم، لنستمتع بنفحاته الروحانية التي ننتظرها من عام إلى عام، ومما الشك فيه أن العديد من الأشخاص يشعرون بالقلق بسبب التغيرات الاقتصادية التي طرأت مؤخرًا، والتي أصابت العالم كله بالتوتر، ولا خلاف على أن أي شعب يتأثر بأي قرار سياسي، خاصة لو كان له تبعات على الحياة الاقتصادية، التي هي مصدر حياة وقوت الإنسان، وما زاد من ذلك القلق أن شهر رمضان أوشك، بما فيه من التزامات، وهذا هو محور مقالي، فلماذا نحوّل الشهر الكريم إلى حالة من البذخ الشديد في المصاريف، والسفه غير العادي في الاستهلاك؟! لماذا نعتبره شهرًا للطعام والغذاء والعزائم، وللمظاهر الاجتماعية والترف غير المبرر؟!
فلو تفكرنا بشيء من الحكمة سندرك أن المولى عز وجل عندما فرض علينا الصيام، لم يكن يبغي عذابنا، أو حرماننا من الطعام، والاستمتاع بكل متع الحياة، وإنما كان لحكمة ربانية وهي الصبر، والشعور بمعاناة الآخرين من الفقراء والمحتاجين، وتلك المعاناة والمشاركة الوجدانية ليست محددة بعدد ساعات مقننة، أي أنها لا تقتصر على الفترة من الفجر إلى غروب الشمس، وإنما هي ممتدة طيلة أيام الشهر الكريم.
ففي هذا الشهر لابد من عدم الإسراف في أشكال وأصناف الطعام، وإلا فقد الصيام الحكمة الحقيقية منه، ولو أدركنا كم الاستهلاك والمصروفات التي تضيع هباءً على أطعمة يتم إهدارها بدون داعٍ، سنكتشف أننا نفرض على أنفسنا أزمة مالية إرادية، فبالفعل نحن نرهق أنفسنا ماديًا بشكل مبالغ، بحجة أننا صائمين، فأي صيام هذا الذي يحول الإنسان إلى وحش يرغب في كل ملذات الحياة بمجرد سماع صوت آذان المغرب.
فالمنطق كان لابد أن يفرض علينا أن نقنن كم استهلاكنا الغذائي في هذا الشهر الكريم، ولكن للأسف، ما يحدث دائمًا هو العكس بسبب عادات وتقاليد توارثناها منذ القدم أثرت على الميزانية، وأرهقت أرباب الأسر، وأجهدت مؤسسات الدولة.
والحقيقة أن تلك السلوكيات السلبية لا تقتصر على شهر رمضان فقط، بل هي في واقع الأمر ممتدة دائمًا مع الإنسان، فهو معتاد على الإنفاق ببذخ، فكثير من الأمور التي نستهلك فيها أموالنا يمكننا الاستغناء عنها وبسهولة، ولكننا حولناها إلى ضروريات في حياتنا، فعلى سبيل المثال، كم استهلاك الإنترنت، وباقات المحمول، وشراء الأجهزة التكنولوجية الحديثة بدون داعٍ، وكثير من السلع التي يتم شرائها من أجل المظاهر الكاذبة، وغيرها من الأشياء التي وطدت الشيزوفيرنيا بداخل الإنسان، فهل ننكر أننا في كثير من الأحيان نظهر بمظهر غير حقيقتنا من أجل الآخرين؟ حتى لو كلفنا هذا الأمر الكثير، وجعلنا نعيش في ضائقة مالية حقيقية، وهذا قمة الازدواجية.
فصدقوني، أغلب الأزمات المالية التي تنهش فينا تكون بكامل إرادتنا واختيارنا، وربما جاءت هذه الأزمة الاقتصادية العالمية لكي تجبرنا على إعادة حساباتنا، ومصارحة أنفسنا، والأهم من ذلك تقدير قيمة النعم التي نهدرها ونستهلكها بدون تدبر، وعلينا أن نتذكر الآية الكريمة: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ).