الْمِشُّ لمن لا يعرف جُبنٌ يعتَّق فى اللَّبن والملح ، ثم يترك فى الجرَّة دهراً حتى يصلحَ فيصير إِداماً . وقد جرى على الألسنة فى مصر مثل : دود المش منه فيه . ورغم أن المثل من الناحية العلمية غير دقيق ، لأن المش لا يُدوَّد ذاتياً كما كان يعتقد ، إلا أن المثل لا يزال سارياً فاعلاً ، حال الرغبة فى التعبير عن الفساد الذاتى فى الأشياء .
أما السبب الحقيقى وراء تدويد المش هو أن الذبابة المنزلية تضع بيضها فى المكان المناسب ، وكان المكان المناسب هو عنق الزلعة أو البلاص ـ وهى إناء من الفَخّار له بطن كبير وعُرْوتان ، تُحفظ فيه السَّوائل أو الجبن ـ وتخرج منه اليرقات ، التى تختلط بالمش . وقد كانت الليفة ـ اللِّيفُ : قِشْرُ النَّخل الذى يُجاور السَّعَف ـ التى تضعها الفلاحات فى عنق الزلعة ، هى أنسب عش للدود بمجرد خروجه من البيض ، وأفضل العوامل المساعدة على إكمال دورة حياة الذباب . ومع اكتشاف تلك الحقيقة العلمية الداحضة ، بقى تعتيق الجبن على حاله كذلك دون تغيير .
واستمر المثل المصرى الشهير سارياً ، وقائماً على ذات الاعتقاد ، وهو أن الفساد ذاتياً ، منه فيه . وقد تذكرت هذا المثل حين كنا نتجادل أنا وصديق لى عن مدى مسئولية النظام الحالى عن الفساد الضارب بجذوره فى أطناب الجهاز الإدارى للدولة . الطُّنُبُ : عَصبُ الجَسد الذى يتصل بالمفاصل والعِظَام ويشدها . نعم هناك فساد فى التعليم ، وفساد فى الزراعة ، وفساد فى الطب ، وفساد فى الهندسة ، وفساد فى الإسكان ، وفساد فى المحليات . أينما تولى وجهك تجد الفساد ، وتزكم أنفك روائحه المنبعثة من كل حدب وصوب . والصالح فى جانب تجده فاسداً فى جوانب .
ويؤكد هذه الحقيقة مشاهدات تراها بأم عينك ، ولا محل لإنكارها . فأنا شخصياً أعرف أناساً أحدهم ذقنه تتدلى على صدره ، وبنطاله قصير ، ولا يترك السواك من يده ، ويتحدث بحديث الدين ، من باب قال الله ، وقال الرسول ، يغادر العمل كى يصلى فى مسجد خارجه ، يبعد بضعة كيلومترات ، مع وجود مسجد فى مقر العمل . وآخر يغادر العمل كى يذهب إلى دار لتحفيظ القرآن فى مواعيد العمل الرسمية ، ليحفظ القرآن . وثالث يذهب إلى قضاء مصالحة . وذلك بخلاف الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ . وقد يرجع ذلك إلى حالة الترهل الشديد التى يعانيها الجهاز الإدارى ، الذى يعد الغطاء الشرعى للبطالة المقنعة . ونتيجة لذلك لابد وأن يكون هناك فشل وفساد . بل إن الفشل والفساد قد ضرب الجهاز من منبت شعره إلى أخمص قدمه . وهنا يأتى السؤال عن مدى مسئولية النظام الحالى عن هذا الوضع ؟ . فإذا كان النظام الحالى لم يصدر أوامره بممارسة الفشل والفساد ، وإن كان ليس بمقدوره إصدار فرماناً رئاسياً بالتخلص من هذا الجهاز، لأن ذلك يعد خياراً شمشونياً ، يهد المعبد على رؤوس من فيه ، ويفجر المجتمع من الداخل ، فلا يمكن محاسبته عن الوضع الراهن ، الذى ورثه عن سابقيه ، وصار دود المش فى عهودهم حيات وثعابين . وتنحصر مسئوليته فى المعالجة التدريجية الهادئة ، والكف عن وضع الليفة فى عنق الزلعة ، واستخدام المبيدات الحشرية فى قتل الذباب ، قبل أن يصل إلى مواضع وضع بيضه ، حتى لا نأكل المش بدوده ، ونكف عن استخدام المثل ، والمسئولية هنا ليست مسئولية النظام وحده ، وإنما مسئولية اجتماعية متكاملة . أليس كذلك ؟ .