المعاناة وعدم العدالة مكونان أساسيان من مكونات الحياة، وعدم الاعتراف بذلك ابتداءً يؤدي إلى المزيد من المعاناة؛ كيف لا يعترف الإنسان بذلك وهو هذا الكيان الهش المعرض للمرض وكوارث الطبيعة والموت في كل لحظة، فضلا عن ظلم أخيه الإنسان وقسوته؟ بل كيف يستمرئ نظرية الـ (٢٤ قيراط) - وهو يرى طوال الوقت من ولدوا بإعاقات ومن ولدوا بجينات تهبهم كم من العضلات يحتاج أبطال كمال الأجسام لسنوات من التدريب للحصول عليه - ويراها مسوغة للعدالة دون دليل واحد أو إحصائية واحدة؟
بل إن المعاناة أساسية للتطور والنمو، ويمكننا أن نطلق عليها المعاناة الإيجابية. يعاني السمين ليفقد دهونه، ويعاني الرياضي ليصل إلى حدود قدرات جسده، ويعاني الدارس ليلم بما سبقه ثم ليكتشف جديدا، يعاني كل إنسان ليصل إلى النسخة الأفضل من نفسه، تلك النسخة المستقبلية الممكنة والأكثر نموا من الذات الحالية بكل مكوناتها جسديا وعقليا وروحيا.
لكن هل المعاناة حقا بهذا السوء؟ يستطيع أي ممارس للتمارين البدنية إخبارك أنه بعد وقت من احتمال للألم يحدث شئ يبدو له خارقا للعادة، إنه يعتاد الألم، يشعر وكأن الألم لم يعد مشكلة كبيرة، وبعد فترة أخرى يتحول هذا الألم إلى شئ مرغوب فيه لأنه المؤشر الحقيقي للنمو، نمو العضلات في هذا المثال.
ربما ما يدفعنا إلى الإقلاع عن فعل الشئ عند ظهور الألم هو مسواتنا تحت شعوريا لجميع أنواع الألم وتفاعلنا معها جميعا على أنها ألم نار الموقد أو قابس الكهرباء أو عصا المدرس الذي صدمنا صغارا ودفعنا لحماية أنفسنا من الأذى والتوقف عن فعل أمر كان سيضرنا كثيرا لو استمر.
و لكن في الواقع هناك فرق كبير بين ألم يحدث لنا عرضا وألم نختار بإرادتنا أن نمر به حتى نصير أكبر وأفضل وأكثر نموا.
إن البداهة التي يراها أهل هذا العصر في أن الإنسان يسعى دائما إلى السعادة لأمر غاية في الخطورة، فكثيرا ما يمر الإنسان بظروف تحرمه - ولمدد طويلة - مما يعرفه الناس على أنه "السعادة"، حينها إما ينقلب هذا الإنسان منتقما من المجتمع الذي حرمه من السعادة أو من نفسه التى لم تكن جديرة بالحصول على السعادة وكلا الأمرين قد يؤدي إلى تتابعات غاية في البشاعة قد تصل إلى الجرائم أو الانتحار.
ما يجب أن يحل محل السعادة كهدف لسعي الإنسان هو المعنى، هذا المعنى الذي يظل هدفا منيرا للطريق حتى في أحلك الظروف، هذا المعنى الذي طالما صاحب جيفارا في الدغل، وفؤاد حداد في سجنه، وزويل في معمله، ود. محمد غنيم وسط الفقراء من مرضاه، ونجيب محفوظ وسط أكوام أوراقه ورمده، محمد صلاح في رحلاته اليومية من قريته إلى النادي وعصام الحضري وهو يغمس نفسه في الثلج ليظل في الملعب رغم تقدمه في السن، المعنى الذي دفع الأخت مادونا بودر لصنع المعجزة وإكمال سباق الرجل الحديدي في عامها الـ 82 (4 كيلو سباحة + 181 كيلو دراجة هوائية + ماراثون كامل 42 كيلو جري).
نفس المعنى الذي أدى افتقاده لزيادة وزن أحمد حسام ميدو بعد أن اعتزل ثم استعاد لياقته مرة أخرى عندما استعاد المعنى؛ لتجده يتحدث عن إنجازه هذا بفخر يفوق فخره بأهم إنجازاته الرياضية.
لماذا يعد تفريط الإنسان في حقه في أن يصير أفضل نسخة من نفسه جريمة في حق المجتمع؟
يعيش الإنسان في مجتمعه الذي صار العالم بعد ثورة الاتصالات كعقدة في شبكة صياد، لا كعلامة سنتيمتر على شريط قياس، إن معظم الناس يعرفون في لحظة ما من حياتهم 1000 شخص، وكل شخص منهم يعرف 1000 شخص، هذا يجعلك على بعد شخص واحد من مليون شخص! وعلى بعد شخصين فقط من مليار شخص!!
إنك واقعيا - وليس شعريا- تستطيع أن تؤثر في العالم، وفي كل يوم تتحمل فيها مسؤوليتك حيال نفسك وتضيف لنفسك نموا صغيرا، معاملا نفسك كشخص يستحق مساعدتك، ومقارنا نفسك بنفسك بالأمس لا بغيرك اليوم، فإن ذلك التغيير يسري خلال هذه الشبكة بشكل فعلي لا يمكنك إدراكه إلا لماما.