أظن أنه لا يوجد شخص على وجه الأرض لا يُحب العسل، فالعسل شفاء ودواء، وحُلو المذاق، ويدخل في صناعة الكثير من الأشياء، ولكن هل يا تُرى يمكن لأي إنسان أن يجعل كل غذائه عسل، أو كل شرابه عسل، بالطبع يستحيل ذلك، ليس لعدم توافر العسل، ولكن لطبيعة الإنسان التي قطعًا ستهلك، لو استمدت كل طاقتها من العسل الذي لا يُضاهيه جمال.
فلقد سقطت قطرة عسل على الأرض، فجاءت نحلة فتذوقت العسل، ثم حاولت الذهاب، لكن مذاق العسل راق لها، فعادت وأخذت رشفة أخرى، ثم أرادت الذهاب، ولكنها شعرت أنها لم تكتفِ بما ارتشفته من العسل، وما أخذته من القطرة، وقررت أن تدخل في العسل لتستمتع به أكثر وأكثر.
دخلت النحلة في قطرة العسل وأخذت تستمتع به، لكنها لم تستطع الخروج منه، لقد كبَّلَ قوائمها والتصقت بالأرض، ولم تستطع الحركة، وظلت على هذه الحال إلى أن ماتت. لو كانت اكتفت بقليل من العسل ما كانت لتموت.
هل تعلمون ما المقصود بالعسل هنا؟ العسل هو الدنيا، وهذه هي الحقيقة، فهي تغرّك بملذاتها، ورغباتها، وسكراتها، ومتاعها، فتظن أنك لابد أن تغرق في كل هذا، وتنهل منه حتى الثمالة، وكلما منحتك أكثر، كلما ازددت اشتياقًا لها أكثر، وتظل هكذا حتى تغرق فيها، والغرق هنا يعني الموت، وليس بالضرورة أن يكون موتًا حقيقيًا، بل يمكن أن يكون موتًا معنويًا، أو أدبيًا، أو افتراضيًا، لأن ملذات الحياة تسرق الإنسان من نفسه، ومن مبادئه، وتدخل به في دائرة مُغلقة، قد يُطلق عليها البعض اسم "الطموح"، ولكنها في الحقيقة لها معنى ومسمى آخر، وهو "الطمع"، الذي لا نهاية له، ولا حدود لحساباته.
فيكفي قليلاً من تلك الأطماع، حتى نشعر بلذة مُتع الحياة، وحتى لا نغرق في عسلها، الذي يُعمي أبصارنا، ويضع الغشاوة عليه، ويزيد من هُمومنا، وصدق من قال: "الشيء الزائد عن حده، لابد أن ينقلب إلى ضده".
فاحلم بما تشاء، وكن طموحًا كيفما تشاء، وتمنى الدنيا بما فيها كيف تشاء، ولكن ضع نُصب عينيك مقولة واحدة، حتى لا تصل بك الطموحات، والأحلام، والأمنيات إلى مرحلة الموت المُحقق، وهي: "ما الدنيا إلا قطرة عسل كبيرة، فمَنْ اكتفى بارتشاف القليل من عسلها نجا، ومَنْ غرق في بحر عسلها هلك".
بقلـــم
د./ داليا مجدي عبد الغني