نشوى رجائى السماك تكتب: "جيوران"

فى زمن بعيد وفى بقعة منسية من بقاع الأرض كانت تقع مملكة صغيرة تسمى "جيوران" وبترجمة هذا الاسم إلى اللغة العربية فإنه يعنى "أرض الخلود"، فقد سميت المملكة بهذا الاسم لأنها تتميز بأن أعمار أهلها مديدة حيث أن متوسط عمر الفرد فيها لا يقل عن الألف عام.

عاش أهل "جيوران" منعزلين تماما عن العالم فخريطة العالم لا تعلم شيئا عن وجودهم وكذلك هم لا يعلمون الكثير عن ما هو خلف الجبال المحيطة بمملكتهم، فالأساطير الجيورانية التى يرددها الجميع منذ قديم الأزل تقول أنه من يخرج من أرضهم تذبل شجرة عمره خلال عام واحد فقط من تاريخ خروجه ولذلك لم يحاول أحدهم أن يفعلها.

ولكن "ميكاس" ذلك الفتى الذى لم يتجاوز من العمر المائة وخمسون عاما، أصبح دائم الانشغال بفكرة محاولة عبور الجبال ليستكشف العالم المختبئ خلفها. لقد أصابه ما أصاب من قبله عدد محدود من شباب المملكة حيث يصيبهم الشغف الذى يجاذب عقولهم وأفئدتهم ليحضهم على استكشاف المجهول. كان معلوما لدى أهل المملكة أن هذا الشغف مرض خطير وأنه يجب على من يصيبه أن يسارع إلى التداوى منه فبحسب قوانين المملكة كان لزاما على من يستشعر فى نفسه الإصابة بهذا المرض أن يلوذ بأقرب طبيب من أطباء "جيوران" ليسلم نفسه إلى العلاج وإن لم يفعل سيسلمه المحيطين به بمجرد الاشتباه به.

كان أطباء "جيوران" ماهرين فى مداواة مرضاهم من هذا الشغف حيث لا يعود إليهم أبدا.

كان "ميكاس" يعلم كل هذا، ولكنه يكره أن يخضع للعلاج فقد أحب شغفه ورأى فيه صديقا حقيقيا بل إنه كان أحيانا يراه عدوا حميما.

"مهلا أيها الشغف الذى تأبى أن تدع قلبى وشأنه، ألا تعلم أن ثمن رضوخى لإلحاحك هو أنى سأفقد حياتى لأموت فى هذه السن المبكرة !!! اسمعنى أيها المزعج سواء كنت صديقا أو عدوا، سأعيش حياتى مثل جميع أهل مملكتى وأعدك صادقا أننى حين أوشك على إتمام العام الألف من عمرى سأركض خلفك إلى ما وراء تلك الجبال العالية".

ظل هذا الحوار يدور ويتكرر بين "ميكاس" و"الشغف" لأعوام عديدة وفى كل مرة كان يظن "ميكاس" أنه يستطيع أن يغلب شغفه ولكنه وقد أوشك على بلوغ المائتى عام من عمره فإنه فعليا قد يئس من مقاومته وقرر الاستسلام له.

كان "ميكاس" عاشقا لفتاة تسمى "بريليان" وهى فتاة جميلة طالما تنافس لإرضائها العشاق، وجهها كالبدر وشعرها أسود بلون الليل ينساب على كتفيها وظهرها، أما عن عينيها فلم تكن قصائد الشعراء لتنصف جمالهما مهما اجتهدوا، فضلا عن قوام رشيق لا يتخلله عيب، ولم تكن تمتلك جمال الخلقة فقط بل كانت فتاة طيبة، حنونة، رقيقة، ذات صوت ملائكى عذب فإذا غنت تطرب الأشجار والأزهار والطيور.

كانت "بريليان" أيضا تبادل "ميكاس" نفس الحب فقد فضلته على الجميع وقررت الزواج به فور اتمامه المائتى عام من عمره ليستطيع أن يتقدم لخطبتها فقد كانت قوانين الزواج فى المملكة لا تجيز أن يخطب الشاب فتاة قبل أن يتم المائتى عام.

وقبل بلوغ "ميكاس" القرن الثانى من عمره بأيام قليلة قرر أن يصارح "بريليان" بانهزامه أمام شغفه وأنه قد قرر أن يركض خلفه إلى ما وراء تلك الجبال. لم يكن هذا القرار سهلا بالنسبة لميكاس ولكنه صار أضعف من أن يقاوم هذا الشغف ولم يجد مفرا من الاستسلام له.

انهارت "بريليان" أمام إصراره على الرحيل فهى لا تريد أن يفارقها أبدا وخاصة إذا كان سيفارقها إلى المجهول.

" إذن سأرحل معك يا ميكاس، لن أتركك" "هل جننتى يا بريليان !! أنتى تختارين الموت!" "نعم أختار الموت معك لأننى لن أتحمل موتى وأنا على قيد الحياة إذا هجرتنى" عانقها "ميكاس" عناق مودع لقطعة من قلبه ثم قال لها: "إذن فانتظرينى فى نفس المكان بعد سبعة أيام من الآن لنرحل عند شروق شمس انفراد".

انصرف "ميكاس" وقد انتوى أن يرحل فى نفس اليوم ولن ينتظر السبعة أيام فقد كان مقررا الرحيل بدونها فهو لا يقبل أن يأخذها بيديه إلى حتفها. انطلق يشق طريقه بين الجبال ويواجه مخاطر كثيرة ليجد نفسه فى أكثر من مرة أمام الموت وجها لوجه ثم يدير الموت وجهه عنه وينصرف. استطاع "ميكاس" أن يصل إلى ما وراء الجبال وفى هذه اللحظة انتابته فرحة شديدة لم يعكرها أبدا أى خوف من موت ينتظره خلال عام واحد بحسب الأسطورة الجيورانية. وكيف يخاف الموت من اختاره ثمنا لتحقيق حلمه! انطلق "ميكاس" ليجوب بقاع الأرض ويستكشف هذا المجهول العظيم الذى خبأته تلك الجبال خلفها، مر "ميكاس" ببلاد كثيرة وشعوب مختلفة وثقافات متنوعة ليملأ سنوات عمره الطويلة التى عاشها بعد خروجه من مملكته بكنوز المعرفة والحكمة.

هل كانت الأسطورة الجيورانية كاذبة حين أخبرت بأن من يتجاوز الجبال المحيطة بالمملكة تذبل شجرة عمره خلال عام واحد؟ أم أن الموت ينهزم أمام من لا يخشاه ؟ أتم "ميكاس" الألف من عمره خارج المملكة ليقرر أن يعود مرة أخرى إلى وطنه حاملا له ثمانية قرون من عمره مملوءة بكنوز لا تقدر بمال.

استطاع "ميكاس" أن يتجاوز الجبال مرة أخرى عائدا إلى داخل "جيوران" ولكنه فوجئ أن المملكة لم تعد أبدا تشبه حالها حين تركها.

وجد "ميكاس" القبح يغزو كل مكان دون أى استنكار أو استياء من الناس. وجد الناس تتسابق على الحصول على جيف الحيوانات المتعفنة وتتلذذ بأكلها، وجد النهر الكبير كما لم يتركه أبدا فقد وجد أهل "جيوران" يحتفلون بعيد النهر الكبير بإلقاء القاذورات به فى احتفالية شعبية حاشدة. بحث عن "بريليان" الجميلة متوقعا أن تكون قد تزوجت من احدى الأمراء أو ربما صارت ملكة المملكة ولكنه صعق حينما وجدها فى صفوف الخدم بل والأغرب أن صفوف الخدم لا تضم سوى الجميلات اللاتى يتم معاملتهن أسوأ معاملة من قبل مخدوماتهن والعجيب أن هؤلاء المخدومات كلهن قبيحات ذوات أجساد غريبة غير متناسقة ووجوه تضج بالقبح ولا يتوقفن عن الغناء بأصواتهن المزعجة وكلما غنت إحداهما صفق لها من يسمعها منتشيا بصوتها البشع.

استطاع "ميكاس" أن يخطف "بريليان" ليهربا إلى كهف صغير بتلك الجبال العالية التى لا يحاول أهل المملكة الاقتراب منها. كانت عودة "ميكاس" بالنسبة لبريليان معجزة بثت فيها الحياة من جديد، فقد كان عقلها مصدقا أن ميكاس لقى حتفه بمجرد خروجه من المملكة ولكنها فى الوقت ذاته كانت تشعر أنه مادام قلبها ينبض بصدرها فإن "ميكاس" قلبه ينبض هو الآخر بصدره، عاشت فى صراع بين ما يقوله عقلها وبين ما يهمس به قلبها حتى وجدته حيا يرزق.

"ما الذى حدث فى جيوران فى غيابى يا بريليان ؟ ماذا دها الناس ؟ كيف تمكن القبح منهم؟ " تنهدت بريليان تنهيدة طويلة ثم قالت: " ااااه يا ميكاس.. كم هو مؤلم ما حدث، لقد تسلل القبح فى جنح الليل ليتخذ جندا له يساعدونه فى مهمته حتى أصبحا قويا وانطلق يغرى الناس ويستدرجهم إلى قصره ليسقيهم مشروبه السحرى الذى ينسيهم معنى الجمال الحقيقى ليقدسوا هذا القبح" ثم استطردت قائلة: " فلتأخذنى معك هذه المرة إلى خارج المملكة فإنه لم يعد لنا مكان فيها، لقد تمكن القبح وسيطر على كل شىء" "بريليان...لن أترك وطنى...مكاننا هنا فى وطننا" "لن نستطيع أن نعيش فى هذا القبح يا ميكاس...صدقنى" "لن نعيش فى القبح يا بريليان...سنحاربه بالجمال الذى لا يموت حتى وإن نسيه الناس" ابتسمت "بريليان" فى سعادة ثم قالت: "لقد أصبحت محاربا لا يقهره شىء يا ميكاس"



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;