من منا ينسى تلك الروايات التى قدمت جرأة فى معالجة قضايا المرأة بشكل أدهش الجميع، تلك الروايات التى وجدت فيها السينما المصرية الملاذ لتقديم نظرة جديدة على شاشة السينما عن المرأة بدلاً من تلك الكسيرة الضعيفة التابعة للرجل، قدمت السينما المرأة القوية التى تبحث عن احلامها ومستقبلها المهنى ولا ترضى بفتات الحياة، ولهذا اختارت لتجسيد هذه الشخصيات ممثلات بارعات يصلحن لهذه الأدوار الخاصة مثل لبنى عبد العزيز وماجدة.
هى بلا شك رواياته مثل أين عمرى، أنا حرة، الطريق المسدود، والنظارة السوداء....
حملت كتاباته وجهة نظر خاصة بالمرأة وحريتها ومستقبلها وعرض بشكل راق، كيف أن المرأة لم تعد على هامش الحياة وأن من حقها أختيار حياتها والمشاركة فى نهضة المجتمع وهو ماوضعه على قائمة أهم ادباء العصر فى دعواته الجريئة والمتفتحة، وفسر البعض هذا إلى تأثير والدته فاطمة اليوسف والتى سطرت هى الاخرى حياة مفعمة بالنشاط والانجاز.
فى احد الأيام كتب رثاء فى صديق له فقال :
"الحياة لا تذكرنا بالموت، ولكن الموت يذكرنا بالحياة، وعندما نفاجأ بموت إنسان يكون رد الفعل الطبيعى للمفاجأة هو دائماً ذكر حياته، لا نذكر غيبته ولا نتصور أنه انتهى، ولكننا بقوة المفاجأة نفسها نذكر حياته، ونذكر من تفاصيل حياته صوراً كثيرة لم نكن نذكرها قبل أن تصدمنا مفاجأة موته، أنت لا تعد احجار البيت الذى تسكنه، ولكن عندما ينقص من البيت حجر تذكره وتبحث وراءه وتبكيه".
كان فى حياته محارباً ومتهماً، وعندما توفى مدحته نفس الأقلام التى انتقدته، وتذكر اصحابها انه كتب فى السياسة كما كتب فى الحب وعن مشاعر المرأة، فهو اول من كتب عن صفقة الاسلحة الفاسدة.
دخل قلوبنا بكتاباته، فحين نقرأ له لا نستطيع الفكاك من اثره حيث نشعر بإنسانيته على الورق وفى كل حرف وكل كلمة، يربطنا به حبل سرى لا يُرى ولا ينفصم مع كل قراءة جديدة، كتب لنا لا من أجل المال والشهرة بل لإمتاعنا أدباً وفناً.
ولد فى أول يناير عام 1919 ونشأ فى بيت جده لوالده الشيخ رضوان وكان من خريجى الجامع الأزهر ويعمل رئيس كتاب بالمحاكم الشرعية، وهو بحكم ثقافته وتعليمه متدين جداً وكان يفرض على جميع العائلة الالتزام والتمسك بأوامر الدين وأداء فروضه والمحافظة على التقاليد، وكانت والدته فنانة وصحفية، سيدة متحررة تفتح بيتها لعقد ندوات ثقافية وسياسية يشترك فيها كبار الشعراء والأدباء والسياسيين ورجال الفن، وكان يحضر وهو طفل ندوة جده حيث يلتقى بزملائه من علماء الأزهر ويأخذ الدروس الدينية التى ارتضاها له جده وقبل أن يهضمها يجد نفسه فى أحضان ندوة أخرى على النقيض تماماً لما كان عليه.
ويتحدث اديبنا عن تأثير هذين الجانبين المتناقضين عليه فيقول: "كان الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين يصيبنى فى البداية بما يشبه الدوار الذهنى حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسى لتقبله كأمر واقع فى حياتى لا مفر منه".
ووالدته واسمها الحقيقى فاطمة اليوسف وهى لبنانية الأصل، نشأت يتيمة إذ فقدت والديها منذ بداية حياتها واحتضنتها أسرة نصرانية صديقة لوالدها والتى قررت الهجرة إلى أمريكا وعند رسو الباخرة بالإسكندرية طلب أسكندر فرح صاحب فرقة مسرحية من الأسرة المهاجرة التنازل عن البنت اليتيمة فاطمة ليتولاها ويربيها فوافقت الأسرة وبدأت حياتها فى الفن، وتعرفت فاطمة اليوسف على المهندس محمد عبد القدوس المهندس بالطرق والكبارى فى حفل أقامه النادى الأهلى وكان عبد القدوس عضواً بالنادى ومن هواة الفن فصعد على المسرح وقدم فاصلاً من المونولوجات المرحة، فأعجبت به فاطمة وبعد قصة حب تزوجته، فثار والده وتبرأ منه وطرده من بيته لزواجه من ممثلة، فترك الابن وظيفته الحكومية وتفرغ للفن ممثلاً ومؤلفاً مسرحياً.
درس كاتبنا الكبير فى مدرسة خليل آغا بالقاهرة 1927-1931م، ثم فى مدرسة فؤاد الأول بالقاهرة 1932م-1937م، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وتخرج منها عام 1942م وفشل أن يكون محامياً ويتحدث عن فشله هذا فيقول:"كنت محامياً فاشلاً لا أجيد المناقشة والحوار وكنت أدارى فشلى فى المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكت وهو أمر أفقدنى تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامى فى أن أكون محامياً لامعاً".
شارك بإسهامات بارزة فى المجلس الأعلى للصحافة ومؤسسة السينما، وقد كتب 49 رواية تم تحويلها إلى نصوص أفلام و5 روايات تم تحويلها إلى نصوص مسرحية و9 روايات أصبحت مسلسلات إذاعية و10 روايات تم تحويلها إلى مسلسلات تليفزيونية إضافة إلى 65 كتاباً من رواياته ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية والأوكرانية والصينية والألمانية.
عمل رئيساً لتحرير روز اليوسف من 1945-1964م. وكان قد تولى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة روزاليوسف عام 1960م عقب تأميم الصحافة. ثم عين رئيسا لتحرير أخبار اليوم 1966ـ1974، وكان ايضاً من عام 1971 رئيساً لمجلس إدارة المؤسسة، وعين رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام من مارس عام 1975 حتى مارس عام 1976م، وبعدها كاتبا متفرغا فى الأهرام حتى وفاته.
لقد علق فى ذاكرتنا وكان مثل الشخصيات المهمة فى حياتنا، فهناك اللطيف المحبوب الذى لا ننساه والآخر السمج الذى لا نود ذكره والآخر الذى يستشار ونعود اليه ونعجب دائماً بآرائه، بالنسبة لى فقد سطع نور العبارات امامى والتقط افكارى حين بدأت أقرأ رواياته، فكل رواية كتبها بعناية وحب ووضع فيها أحاسيسه ومشاعره وحينما اقرؤها كأنى فى حوار حميم معه، ولم اتخيل فى يوم ما انى سأدخل لمنزله حيث شرفت لدخوله مع الصديق خالد تليمة لمقابلة نجله استاذنا محمد عبد القدوس لأمر يخص موقع "يلا تغيير" حيث كان خالد مديرا لتحريره والأستاذ مشرفا عاما له، وكانت الحقيقة التى حدثت بالفعل لا محض خيال، ففى بيته عثرت عليه وسمعت صوت ذاكرته وقلبت فى اوراقه المكشوفة أمامى، وذلك من خلال صوره ومكتبته ومكتبه وسريره وكرسى جلوسه المفضل، وكان هذا إغراء يجذب فضولى، فلدينا جميعاً فضول لا يمكن تجاهله أو محاولة إخفائه، ونرغب فى فتح الخزائن السرية التى كانت مغلقة أمامنا.
إنه كاتبنا الكبير إحسان عبد القدوس الذى رحل عنا فى مثل هذا اليوم 12 يناير 1990 لكنه لازال بيننا بكتبه ورواياته.