في مرحلة معينة من حياة الإنسان، سيكتشف أنه وصل إلى درجة معينة من النضج، وهذا النضج لا يكون له علاقة مباشرة بالعُمر، ولكنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالخبرة والتجارب الحياتية، وكثرة التعامل مع البشر، فهذا يُحدث بداخله نوعًا من أنواع النضج النفسي والعقلي والعاطفي، فنجده يتراجع عن تصرفات كان يراها منطقية للغاية في مرحلة معينة، ويستسخف مشاعر كان يظنها سوية جدًا في مرحلة مُعينة، ويستاء من أسلوب حياة كان يعتقد أنه طبيعي لأقصى درجة في مرحلة معينة.
فالنضج يأتي عادة بإحساس يغمر الإنسان ويُسيطر عليه بأنه أصبح أقوى من الأول، ولديه استعداد كامل لنقد نفسه في المراحل السابقة من حياته بمنتهى الحيادية والموضوعية، فهو يرى أخطاءه، ويُحللها بمنتهى الشفافية، ولا يأبى أن يُعلن عن خطأه أمام الكافة، لأنه يكون لديه قمة الإيمان والقناعة بأن كل المراحل السابقة على هذه المرحلة، ما هي إلا تمهيدًا لنضج كبير في حياته.
وبالمناسبة مرحلة النضج هذه هي أكثر المراحل الحياتية إحساسًا بالسعادة، لأن قرارات الإنسان فيها تكون مدروسة وبحكمة شديدة، فمشاعره تكون على أساس سليم، فعندما يشعر بعاطفة تجاه شخص مُعين، يكون شعوره نابعًا من مواقف قوية تستحق أن يمنح مشاعره لذلك الشخص على وجه التحديد، وعندما يُصدر قرارًا يكون هذا القرار مدروسًا وبعمق وله أرضية صلبة، فأي سلوك يأتي به يكون نابعًا من فكر ناضج، وإحساس عميق، ودراسة مُتأنية.
وهذه هي السعادة بعينها، فالسعادة ليست مُجرد إحساس، ولكنها فكر عاقل وراقٍ، نابع من عقل ناضج، لديه القدرة على ربط الأمور ببعضها البعض، لذا فإن أي شعور سابق في المراحل السابقة يكون مجرد إحساس عابر ليس له خلفية تستحق أن يُعيرها صاحبها أي اهتمام.
فبالفعل، صدق مَنْ قال أن العقل زينة، فهو يُزين صاحبه بالفكر المُتعقل، ويجعله يضع كل الأمور في نصابها الصحيح، وهنا فقط يُقر الإنسان ويعترف بأنه وصل إلى أعلى درجات النضج التي تسمح له باتخاذ القرارات المصيرية في حياته، لأنه سيكون قادرًا على تحمل نتائجها وتبعاتها بمُنتهى القوة والصمود.