تمر الأيام دائبة الكر، تتدفق كتيار البحر الزاخر لا يفتر ولا يستقر، نطفو فوقه وسائر الكون من حولنا كخيالات تظهر ثم تغيب، وأنفاس الناس لا تكاد تصدر حتى تبيد. وسط هذا الخضم إذا الكوكب الوقاد قد طلع كأنه ماسة تلتهب بلألاء أبهر ما يراه الناس؛ فيضىء نوراً يكشف لهم السبيل، ويشرق فى نواحى الحياة كما يشرق النجم فى حنايا الأفق. وقد كان أحمد زويل من هذه الكواكب السيارة التى أنارت بعلمها وعطائها سبلاً لمجد البشرية؛ إنه من طائفة العظماء الذين شكلوا التاريخ بما صنعوا من جلائل الأمور. إنهم المبدعون لكل ما وُفق إليه أهل الدنيا، وكل ما بلغه العالم وما نراه قائماً فى هذا الوجود كاملاً متقناً يُعد نتيجة حتمية لأفكار هؤلاء العظماء.
رحل أحمد زويل عن عالمنا جسداً.. ولكنه لم يزل عظيماً حتى بعد موته؛ فما تركه من إرث علمى سيظل نوراً يتدفق بين جنبات الحياة، فهو كسراج أشعل بين أشباهه من سرج تلوح فى الأفق، يتتبعها الناس فى حلهم وارتحالهم. إن نظرة متفحصة فى سجل حياة زويل لجديرة بأن تكون تأملاً واعياً فى عقل البشر إذا أراد النبوغ، ولبابه إذا أراد البزوغ. كشف زويل من غوامض العلم ما حار فيه الذهن، وما كان وهماً متكاثفاً فى عقول العلماء، وما خيم على أكناف المعرفة من غواشى قبابها ودواجى ظلامها ؛ فلا تملك إلا أن تحنى الرأس له إجلالاً وتنكس البصر له مهابة وانبهاراً.
قدم زويل أقصى ما كان فى طاقة إتيانه من سويداء فؤاده وعقله، وعلّم العالم أن النبوغ يستعار من حاجات العصر وظروف البيئة والعمل المخلص والسعى الدؤوب، وأن الوقت يصنع البطولة، والبطولة استجابة لنداء الوقت ؛ فالطالما صاحت الأوقات أين الأبطال؟! فيذهب نداؤها صرخة فى واد ونفخة فى رماد، إذ إن الرجل لم يكن موجوداً وقت النداء، والبيئة لم تكن له خير وعاء، فيبح صوت الوقت ولا مجيب، ولا ملبى ثَمَّ ولا مستجيب.
والحقيقة أنه لا يبزغ عصر من العصور إلا إذا أتيح له رجل كبير يجمع بين عقل راجح يعرف به متطلبات عصره، وعزم ماض متجدد، وحاضن ناصح مشجع يدفعه ويقدره. إن العناية بالنابغين فى حياتنا بمثابة من رُزق أرضاً خصبة تحتضن بذور أَجَمة الأبطال، وكل جهد يبذل فى رعايتهم هو فى واقع الأمر تمكين لتلك الجذور فى الثرى، وتقوية لعودها، وتعهد لزهورها ورياحينها وأثمارها.
رحم الله أحمد زويل رحمة واسعة.. وجزاه خير الجزاء نظير ما قدم وأمتع وأجاد حيث أبدع.