تفاجأت بانفتاح نافذة الدردشة على الشاشة الفضية، حملقت عيونى فى الاسم، نعم إنها هى، لم تمهلن لحظة أستحضر فيها كل الأسئلة العالقة فى ذهنى، وكل المشاعر والأحاسيس التى اختلطت وتضاربت وتناقضت خلال فترة انقطاعها عن التجاوب مع الدردشة أو الرد على التليفون. فترة صمت مطبق رهيب، شعرت معها أننى منقطع عن الوجود أو أن الوجود قد انقطع عنى أو كلانا منقطع عن الآخر. قلبى يكاد يتوقف مع النقاط المتماوجة التى تسبق الكلمات.. كتبت :
ـ إزيك....
امتدت أصابعى مرتعشة ضعيفة إلى لوحة المفاتيح، وبدأت فى الدق على رؤوس مفاتيح الحروف، دون تفكير منى وكتبت :
ـ لسَّا عايش...
وسادت فترة صمت طويلة، وكأننا نبحث فيها عن كلمات. أو أن أحدنا ينتظر الآخر ليستأنف الكلام، كتبت :
ـ إزيك انت...
كتبت :
ـ الحمد لله.
ثم ساد الصمت. توجست خيفة، حين تسلل إلى خاطرى هاجس بأن هناك حائلاً يحول دون انسياب الكلام بيننا كالعادة. وأعماقى تغلى بالأفكار والهواجس والمخاوف. ودماغى يمور بأسئلة شتى ذات حروف ملتهبة مدببة، يقتلها التعطش إلى إجابات تطفيء أوارها. فقفزت من فورى إلى ما يشق حجب الصمت المتراصة، ويفتح ما استغلق من الكلام، ويستدعى كل ما فات من مشاعر الحب والحنين والدفء والشوق واللهفة، يستدعى وجع السنين، وأنين الشكوى، وهمسات العتاب، ولحظات التوجس والخوف، ومشاعر الثقة والأمان، قفزت من فورى إلى الكلمة السحرية التى تذيب الجليد، وتبدد المخاوف، وتطيح بكل علامات الإستفهام العالقة. كتبت :
ـ بحبك....
كتبت ببرود ناحِر :
ـ يااااااااااه، لسَّا فاااااااااااااكر ؟ !!.
انتفض قلبى مذبوحاً بين ضلوعى، وأنا أشم رائحة كبدى يحترق، بعد أن رسخت جبال الجليد. كتبت :
ـ آه. فاكر. هو فيه إيه ؟ !.
كتبت :
ـ انت السبب. كنت باتمنى أكون لك ولو ليوم واحد فى السنة.
انهدت فوق رأسى كل جبال الدنيا، إثر زلزال مدمر أصاب كل الوجود من حولى. أصبحت كلماتى تحصيل حاصل، ولم يبق أمامى سوى الانسحاب بهدوء، ململماً ما تبقى من أشلائى النازفة. كتبت :
ـ حكينا فى الكلام ده. وانت قلت إنك مقدرة ظروفى.
كتبت بحدة :
ـ خلاص ما بقتش اقدر.
استنجدت بصبر أيوب، وكتبت مستفسراً :
ـ إيه الـ حصل ؟.
كتبت :
ـ اتجوزت.
كتبت مستسلماً :
ـ مين ؟.
كتبت :
ـ الراجل الـ كلمتك عن مطاردته لى، حاصرنى، وضيق الحصار.
كتبت :
ـ مبروك. ربنا يسعدك.
كتبت :
متزعلش.
مرت أيام عصيبة، ورغماً عنى كنت مطارداً على نحو مرضى، من الأفكار والمعانى والتداعيات، والانهيارات المتتالية، التى تعقب الزلازل العنيفة المدمرة، وتوابعها التى لا تقل عن الزلزال الرئيس عنفاً وتدميراً. حينئذ أدركت أن الواقع وسطوته وغوايته يدك قلاع العوالم الإفتراضية دكاً دكاً، ويحيلها إلى كومة تراب بلا قيمة، لأنها هى الأخرى كومة افتراضية. بعد أيام، تفاجأت بانفتاح نافذة الدردشة، وحملقت فيها، فقرأت اسمها، وعاجلتنى بقولها :
ـ إزيك.
فلملمت شعث بقاياى المبعثرة، وكتبت :
ـ لسَّا عايش....
وأسرعت بالبحث والتنقيب، عن بضع كلمات، أو بقايا كلمات، أو حروف متكسرة أصل بها ما انقطع من حوار، التماساً للشفاء، فلم أجد سوى كومة من تراب، وبقايا أطلال مهشمة. فرد الصمت عليها، رغم انفتاح النافذة. تركتها مفتوحة، ولم أغلق الجهاز، ورغم ذلك لفنى ظلام الغرفة، وتكومت على السرير، محتضناً أطلال الحكاية، وأخذنى النوم، ناقلاً لى من طبقة إلى طبقة أعمق، حتى دنوت من طبقة الموت.