كانت هذه الليلة آخر ليلة له ولأسرته قبل الانتقال إلى الشقة الجديدة فى المكان الأوسع على الشارع الرئيسى بأكبر الميادين بعد أن قضى عشر سنوات فى الشقة القديمة التى ورثها عن والده فهو الوريث الوحيد وليس له أخوة بنات أو بنين وعمل خلال هذه الفترة فى الخارج يجمع الأموال من أجل شراء شقة أوسع ورغم صِغَر مساحة شقة والده الا أنه كان قد قام بتجهيزها وتشطيبها بأحدث التجهيزات فوالده نفسه تزوج فيها. فهى شقة أصيلة كما يقولون فى عمارة قديمة تتمتع بشموخ غير عادى فهى الوحيدة الباقية من هذا الطراز الفريد وسط هذه العمارات الشاهقة القبيحة التى ارتفعت بشكل مستفز فأضاعت شكل ونمط الشارع الصغير وحجبت ضوء الشمس فأضفت ظلاما دامسا ليل نهار. والمهندس علىّ متزوج وله بنتين وزوجته هناء تعمل إدارية فى أحد المستشفيات ونعود إلى البداية حيث أتَّم تحضير المنقولات وتعجَّبْ من كل هذه الكراتين وكيف أن هذه الشقة الصغيرة إستوعبت كل هذا العفش وتوجد بعض الاشياء سيتركها بالطبع ورفض فكرة بيع الشقة تماما عملا بوصية والده الذى قال له قبل أن يموت لا تفرط فى الشقة مهما كانت الظروف حتى لو هتشترى شقة جديدة أو حتى قصر فسيأتى اليوم وتعرف قيمتها وعمل بوصية والده فقد تعود ألا يعصيه حيا أو ميتا.
فى الصباح ذهب إلى العمارة الجديدة حيث استقبله البواب ويدعى جمال وتم نقل العفش للشقة وكونه الساكن الوحيد بالعمارة رغم وجود العديد من الشقق التى تم بيعها بعث فى نفسه القلق ولم يذهب هذا القلق منذ أن دخل العمارة فكان يقارن بينها وبين شقة والده التى كان يشعر فيها بسكينة وطمأنينة غريبة. مرَّت الأيام وكان جمال بواب العمارة يقوم بشراء الخضار والاحتياجات الضرورية للمهندس علىّ ولاحظ علىّ وجود حركة دائمة فى العمارة وسماسرة وأحيانا بعض المشاجرات والتى لم يحاول معرفة أسبابها فهو لا يحب التدخل فى شئون الآخرين.
وفى أحد الأيام التى كان يزداد فيها قلقه لم ينمّ وخرج لشرب الشاى فى البلكونة ليلا وحيدا بعد نوم الابناء وزوجته من عناء ترتيب الشقة حيث جلس فى البلكونة ووضع كوب شاى على ترابيزة خشب دائرية ولاحظ ان الماء فى الكوب يميل إلى أحد الجوانب فنظر جيدا وأرجع السبب إلى الترابيزة قائلا لنفسه: هما كدة النجارين يقولك كل حاجة تمام ميزان مية يا أستاذ وتطلع مايلة منهم لله ويكمل الشاى ولا يهتم وينصرف إلى النوم.
وصباحا كعادته أحيانا يأخذ معه كوب الشاى أثناء حلاقة ذقنه ووضع كوب الشاى على الحوض وهو يتذكر جيدا أنه من قام بضبطه بميزان مع السباك ووجد كوب الشاى أيضا مائلا هو صحيح بنسبة قليلة لكنها أدخلت فى قلبه المزيد من التوتر وتذكر موقف الترابيزة وهنا تسارعت ذهنه مئات التخمينات الخطيرة.
وكان متأخرا عن العمل فقام بتأجيل التفكير فى هذا الموضوع لحين الرجوع وأثناء نزوله وداخل الأسانسير وجد جمال ومعه أحد السماسرة وسمع حوارا بدأ إنفعاليا بين السمسار وجمال البواب
السمسار: شوف يا جمال آخر مرة بقولهالك الفلوس لو مرجعتش والله هيضيع فيها رقاب الكل عِرف خلاص موضوع العمارة وقبل أن يكمل قال جمال وبصوت عالى أجش: ياعم خلاص بقى قولنا هترجعلك وسكتوا فى هذه اللحظة ونظر علىّ إليهم باستغراب وفَهِم أن هناك شيئا خطيرا بينهما ووصل الأسانسير إلى الدور الأرضى ونزلوا سويا وأخذ جمال السمسار إلى غرفته وتذكر علىّ موقف كوب الشاى فى البلكونة والحمام وفكَّر فى الخطر الذى يهدد العمارة وركب علىّ سيارته بالخارج ولكنه قرر الوقوف بعيدا حتى يتتبع السمسار ويفهم منه هذا الغموض وفعلا بعد أن ركب السمسار سيارته تتبعه علىّ حتى وصل إلى مكتبه فى منطقة بعيدة جدا وعرف المكان وجاءت فكرة لعلىّ أن يرسل زميله يسأل عن شقة فاضية فى أى عمارة فى المنطقة التى يسكن فيها ويفهمه أنه يريد شقة رخيصة حتى لو فيها أى عيب وفعلا نفذ صديقه الفكرة وهنا طمع السمسار وقال له :
السمسار: شوف يا استاذ فى عمارة بتميل والكل بيبيع بخسارة هو الميل موش أوى بس بتتباع برخص التراب والفايدة أنك هتاخد أمتار كتير بسعر خرافى يعنى حتى لو العمارة وقعت هتكسب فى سعر المتر كتير أوى.
وهنا يرد زميل المهندس علىّ: طب ادينى مهلة أفكر وأرد عليك.
ورجع إلى صديقه وفهَّمه الموضوع بالكامل هنا شعر علىّ بالخطر على أسرته فالمال أمره سهل ولكن ماذا لو وقعت العمارة وبها أسرته بالكامل ستكون كارثة مؤكدة وإسودَّت الدنيا أمامه حيث كان يرى وقوع هذه العمارة أمرا حتميا والمسألة مسألة وقت وأثناء هذه الأفكار المتسارعة فى ذهنه عرف قيمة وصية والده وان شقته القديمة أصبحت الآن الملجأ الوحيد أمامه وقرر الرجوع إليها وأثناء قيادته للسيارة أجرى مجموعه مكالمات هامة بعمَّال النقل وقام بتأجيل مشاكله مع جمال وصاحب العمارة لوقت لاحق. وجاء قراره السريع صادما لزوجته وأولاده لأنهم لم يفرحوا بالشقة الجديدة الواسعة بعد طول إنتظار وبعد عودتهم والإستقرار فى شقتهم القديمة سمع خبر إنهيار العمارة الجديدة فى التليفزيون وأنه كان هناك ساكنا وحيدا ونجا بالصدفة حيث ترك العمارة قبل أن تنهار بيوم واحد فنظر لزوجته وأولاده وقد ظهر الرعب والبكاء على وجوههم أما هو فابتسم ونظر لصورة والده المعلقة منذ عشرات السنين وقال الله يرحمك يا حاج النهاردة بس عرفت قيمة الشقة القديمة زى ما أنت قلت فحمد الله حمدا كثيرا وقرأ الفاتحة على روح والده الطاهرة.