لقد تراجعت عن كل قناعاتى السابقة بشأن العلاقات "الفيسبوكية". فقد كانت العلاقات الناشئة عنها من وجهة نظرى، أنها نباتات جميلة رائعة، متنوعة الألوان والروائح، إلا أنها بلا جذور.
والخطأ الذى وقعت فيه ـ ويقع فيه البشر ـ هو خطأ التعميم، إذ ليس بالضرورة أن ما ينطبق على الكل، ينطبق على الجزء الذى يندرج تحت هذا الكل. ومع ذلك لا زالت هناك العديد من الأسئلة العالقة بلا إجابة مقنعة فى عالم البشر. إذ كيف تعبر المشاعر والأحاسيس والعواطف حواجز الأجهزة والمكان والزمان، لتستقر بثقة وصدق فى سويداء القلوب ؟. كيف تحب وتعشق دون رؤية مباشرة للوجوه والملامح، ودون احتكاك مباشر وحى بالسلوك والفكر ؟. أم تُرى أن البشرية قد تجاوزت ذلك الشكل التقليدى من الحب، لتنتقل إلى نوع جديد لا يعتمد على الأسباب التقليدية المعروفة ؟. قد يبدو الأمر تافهاً، إلا أنه يمثل انقلاباً فى العلاقات البشرية والإنسانية، مستقبلاً.
هذا الانقلاب الدرامى قد أصاب حياتى، ودفعنى إلى التراجع عن قناعاتى السابقة. لا تسأل عن العقل والمنطق حين يتولى القلب القيادة، حينها سيمتزج الخيال بالواقع، ويمتزج الواقع بالحلم، ويمتزج الحلم بالجنون. حينها يتجاوز المرء كل الخطوط. وقد تعرفت إليها فى البداية عن طريق: " الفيسبوك ". كان الإندفاع بقوة من جانبى، وكان التحفظ والحذر من جانبها. نتلكم، وكل منا يقلب كلامه، وكلام الطرف الآخر على كل وجه محتمل. ولم نعد نستغنى عن الكلام، حتى لو اختلفنا، كنا ننتظره، ونبحث عنه، ونتشوق إليه. كانت أحياناً تتفلت منى كلمات ـ أو أدسها فى ثنايا الكلام لتمريرها ـ تراها غير مناسبة، فكانت تبدى تحفظها برص مجموعة من النقاط المتجاورة بديلا عن الكلام. فأبادر بالاعتذار، وسحب الكلمة، وشطبها من السياق العام. وبدأ الكلام ينسل خفية دون أن نشعر إلى تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، مشاكل العمل، والأولاد، والشارع، ونوع الطعام فى كل وجبة، ومواعيد النوم واليقظة. بدأنا نحس بأنفاسنا تملأ ما بين الجدران، والدفء الذى يحدثه تواجدنا معاً. وحكينا عن طفولتنا، وعن أهالينا، وعن تواريخنا مع التعليم والمدارس، وما كان يفرحنا أو يغضبنا فى هذه السن الباكرة. حكينا عن قصص الحب الصغيرة التى كنا نتعثر بها فى شبابنا، وكيف أنها استغرقتنا حتى النخاع، ثم سرعان ما تلاشت مع الزمن. وكنا نعود إلى بدايات التعارف فيما بيننا، ونتشاطر الضحك على اندفاعى، وعلى حذرها. ومرت الأيام، وتوالت حتى تشكلت منها السنون. كنت متوهماً أن ما بيننا حباً للحب، حباً فى المطلق بلا غاية تحده، وبلا سقف يحول دون تحليقه فى فضاءات اللانهائية. أو هكذا فهمت. فظروفى تحول دون وضع نقطة، والبدء من أول السطر فى حياة جديدة، تقلب حياتى القديمة رأساً على عقب، فقد كان لدى زوجة وأولاد وحياة مستقرة. فقط كنت فى حاجة إلى الشعور بالحب. وقد نسيت فى الزحام، رغم تصريحها بأنها لا تحتاج منى سوى الحب، إنها إمرأة، مات عنها زوجها، وعكفت على تربية أولادها وسع الطاقة، مغلقة على حاجاتها بوابات حديدية محكمة، وقد ساعدها على ذلك وجود الغاية التى تربطها بالحياة، وهى تربية الأولاد. ولما كبر الأولاد، وتزوجوا، وجدت نفسها وحيدة بين حوائط باردة، تخاف من وحدتها، وتقلقها الأصوات القريبة والبعيدة، مجهولة المصدر، التى تدق مسامعها. وقد فقدت الغاية والهدف من الوجود فى الحياة. وهنا يفقد الإرتباط " الفيسبوكي" مهما كانت متانته، القيمة والقدرة على ملء الفراغ، وإزالة القلق، وإزاحة الخوف، وإشباع الحاجات الإنسانية التى لا تقاوم. يبدو أننى قد نسيت ذلك، أو تناسيته. وربما دفعتنى الأنانية إلى عدم فتحه أو النقاش فيه. بل إن الأمر قد وصل بى حد مقاومة رغبتها فى رؤيتى فى الحقيقة، والكلام معى وجهاً لوجه، واعتمدت فى المقاومة على التسويف، وإرجاع الأمر إلى وجهة قدرية لا تقاوم من باب: " إن شاء الله "، " لو فيه نصيب "، "ربنا يسهل ". وأظن أن الإعتماد على ذلك قد أشعرها بالقلق. وما تصورته أنا أنه " حب للحب "، أخذته هى على أنه من باب التسلية، وتزجية وقت الفراغ. وربما يكون ذلك أول تباين بين وجهات النظر فيما بيننا بشأن مصير هذا الحب. وقد فوجئت بها تضعنى فى موضع الإختبار، ووضعت حبنا على المحك حين قالت لى عبر نافذة الدردشة :
ـ هل أنت تحبنى ؟
قلت :
ـ سؤال متأخر للغاية.
قالت:
ـ أجبنى بلا لف ولا دوران.
قلت :
ـ نعم أحبك.
قالت :
ـ تعالى لرؤيتى. ولا تتعلل.
قلت :
سآتيك غداً.
قالت :
ـ تقدر !!!
قلت :
أقدر.
قالت :
ماذا تعرف فى مدينتى ؟.
قلت:
الجسر الرابط بين المدينتين.
كان تحدياً وجودياً فارقاً. دفعنى إلى ركوب السيارة بعد انقضاء يوم العمل. نسيت الجوع والعطش. وانطلقت بالسيارة مسرعاً، متخلياً عن الحذر فى القيادة. عبثت أصابعى بمفاتيح الراديو، حتى استقرت على موجة تبث موسيقى هادئة. لم أعبأ بمخاطر الطريق المفرد الذى تسير فيه السيارات فى اتجاهين، ومن بينها سيارات النقل الثقيل. اسمع عويل العجلات وهى تنهب الطريق نهباً. وتزداد المخاطرة أمام القرى والكفور المتتالية بطول الطريق. حيث الدراجات النارية، والتوتوك، والعربات الكارو، وقطعان المواشى والأغنام، والبشر الذين يزرعون الأرض جيئة وذهاباً، بخلاف المطبات العشوائية المنزرعة أمام البيوت. وما أن تغادر القرية حتى تستفيق السيارة من غيبوبتها المؤقتة وتنطلق. فتجد النباتات منتشرة على جانبى الطريق إلى ما بعد امتداد الأفق اللانهائى، وتجد النسائم المعطرة بالرياحين وهى تنفذ إلى خياشيمك، ونتف السحاب المبعثرة على صفحة السماء الزرقاء، والشمس وهى تتأهب للمغيب. وقوافل الطير السابحة فى الهواء وهى تغادر إلى أعشاشها. وبعد ساعتين كنت على مشارف المدينة، تتحسس السيارة طريقها، فى محاولة للتعرف على المكان الجديد. الجوع والعطش أخذ منى مأخذه، وأمامى وقت قليل قبل مغيب الشمس خلف الأفق. ركنت السيارة على جانب الطريق، ودلفت إلى أحد المقاهى. مزدحم بالرواد. بصعوبة جرى تدبير منضدة وكرسى. وتناولت قطعتين من البسكويت مع كوب من الشاى. طلبت فنجاناً من القهوة، فأحضره عامل المقهى، وقبل أن يفرغ من وضعه على المنضدة، سمعت صرخة جماعية مدوية من داخل المقهى، فزعت لها، فضربت صينية القهوة بيدى، فتطايرت من يد العامل، ففزع هو الآخر. لملمت شعثى وسألته :
ـ ما هذا الصوت ؟
فقال وهو يرتعد :
ـ مباراة الأهلى والزمالك.
فضحكت بملء شدقى، واستلقيت على الكرسى، وأنا أضرب كفاً بكف، وأشرت للعامل بالاقتراب، ونقدته ثمن الأشياء، ونفحته بقشيشاً، نظر فيه، ثم انصرف مبتسماً بامتنان. توجهت إلى السيارة، وبها توجهت إلى الجسر. أخذت أبحث عن مكان قريب لركن السيارة به، فعثرت على مكان تم أخلاءه من فوره، فأسرعت باحتلاله. وأغلقت السيارة، وسرت فى اتجاه الجسر. حيث الناس تمشى فوق الجسر فى الاتجاهين، على أرصفة جانبية ملاصقة للدرابزين المضروب على جانبى الجسر، وفى الوسط منه جرى تقسيم الطريق إلى اتجاهين لسير السيارات. وتحت الجسر تنعكس أضواء المدينتين على صفحة الماء الهادئة، وزوارق صغيرة تجوب النهر ذهابا وإياباً، وفى باطن جسرى النهر سلالم صغيرة تهبط بك إلى مقاهى، وكافتريات، ونوادى صغيرة، يلتجيء إليها أهالى المدينتين كمكان للفسحة. وفوق الجسر أمواج بشرية من مختلف الأعمار تهب منها روائح معطرة تختلط بنسائم النهر الطرية. الجسر أشبه ما يكون بجسر العشاق، وليس مجرد رابط بين مدينتين. أجول بعيناى جنبات المكان كسائح مسه سحر خفى، دفعه إلى التقاط كل ما يقع عليه بصره. مشاهد ومناظر خلابة مبهجة. حتى النسائم السابحة محملة بأرائج الرياحين الفواحة، تركت القلب يتراقص طرباً بين الضلوع، على خلفية موسيقى ناعمة هامسة، تعزفها أوتار الوجود. كنت أسير محملقاً فى الوجوه لعلى ألتقط ملمحاً من ملامحها، التى تعيها الذاكرة من صورتها، حتى وصلت إلى منتصف الجسر. أخرجت هاتفى النقال وطلبتها. صوت الجرس ظل ممتداً حتى انقطع دون أن يرد أحد. أغلقت الهاتف، وأسندت ظهرى للدرابزين مولياً ظهرى للنهر، وعينى على المارين فوق الجسر. اتفحص وجوه السيدات. وكلما مر الوقت، زاد توترى وانفعالى، وتبدى ذلك على وجهى، ونظرة عينى فى الوجوه، تفحص تائه يلتمس العون بنظرات متوسلة فى صمت. عاودت إخراج الهاتف، وطلبتها مراراً، وجوبهت بالصمت. كدت أصرخ منادياً عليها. أصرخ فى وجوه المارة. بدأ الزمن يزحف بخطوات متثاقلة، على أرصفة الجسر. والزحام يخف. وروائح العشاق تغدار النسائم، مع هيمنة الضباب الكثيف، الذى هب على نحو مفاجئ، والمراكب الصغيرة تنزوى ساكنة بجوار الجسر. بدأ الأمل يخبو أواره المتوهج، يخفت، وينزوى متراجعاً. كلت العيون من طول الحملقة، وتعبت الأقدام من طول المكوث. بدأت فى الانسحاب من على الجسر، بنفس كسيرة، وعيون مودعة، وربما عيون دامعة. ألقيت بجسدى داخل السيارة، وأدرت المحرك، وانسحبت، مخلفاً أضواء المدينة، مخترقاً طبقات الضباب والظلام طول فى طريق العودة.