بين نسيان الماضى ومعرفته يقبع هذا التوهان. هذه هى اختيارات التعامل مع الماضى أيا ما كان: التوهان - معرفته أو نسيانه.
نجد فى ماضينا الحل النفسى الأمثل الذى يساعدنا على الاستمرار فى الحياة. وبالتالى فالماضى يجب أن يكون إما جميلا بشكل مبالغ فيه لنَحِن إليه كمنبع دائم للحلم والأمل أو أنه فى غاية السوء فيكون علتنا لما نحن عليه فيغسل فينا ويرفع عنا الإحساس بالإثم أو التقصير. ولحاجتنا للأمل ولتبرئة أنفسنا أى شبهة تقصير فنحن نقسم الماضى جزاءان لكل حاجة. ولا يشترط أن نقسمه كلنا بنفس الشكل فكل منا يقسم الماضى كما يريد. فما أراه جميلا تراه سبب كل مشاكلنا والعكس المهم أن يجد كل منا دواءه من الماضى ليريحه فى الحاضر والمستقبل.
هذا هو التوهان فى الماضى وهو بلا شك أفضل وصف لحالنا وبالأصح فهو اختيارنا. وهناك خياران آخران معرفة الماضى أو نسيانه. وقبل أن أدخل فى الخياران الآخران أود أن أنوه أن وصفى لخيار التوهان غير مكتمل ولا يظهر الجانب الإيجابى منه. وبالتالى فإنى أتفهم هذا الاختيار ولا أنبذه أو أُحَقِّره وبالتالى لا أحذر ولا أنذر أننا إذا ظللنا على هذه الخيار فستحل علينا اللعنة وسيحدث ما لا يحمد عقباه (وهذا ما كتبته فى مقالين سابقين: 1 2). وهذا لا يمنع تفضيلى للخيارين الآخرين.
طبقا لما تعلمناه فمعرفة الماضى مطلوبة بل ضرورية. فمن لا ماضى له لا مستقبل له (لا أعرف من قالها ولا أعتقد أنها مقولة صحيحة). ولكن طبقا لهذه النظرية فإننا لا ندرس الماضى للتسالى أو للحكم عليه بل ندرسه أساسا للاستفادة من تجاربه.
بالتالى فعلينا دراسته بموضعية (ولا أقول بحيادية). ولا مانع أبدا أن ننحاز لأنفسنا أو ننحاز عليها كمُسَكن أو لاكتساب ثقة أكبر فى مجتمعنا على ألا تخل بالدراسة الموضوعية. مثلها مثل شرب الخمر أو تعاطى المخدرات. خطرها يكمن فى الانسياق والتمادى ولكنها لا تشكل خطرا إذا استخدمت أحيانا بحيث لا تؤدى لإدمان أو لفقدان تام للوعى أو طبعا للوفاة بسبب الجرعة الزائدة (فقليل منه يصلح المعدة).
ولأننا نعيش فى التوهان (إدمان) فلا أعتقد أن دراسة الماضى بموضعية ستحقق الغرض منها. فلن نقرأ منها سوى سطور التوهان تماما كالمدمن حين يتعاطى أنواعا من الأدوية التى تحتوى على نسبة قليلة من المواد المخدرة ولا يرى المدمن فيها سوى تلك المواد.
إذاً وجب فى المرحلة الأولى التكلم عن الماضى بحيادية تامة. والانحياز أن وجد يكون علينا أكثر ما يكون لنا. وهذا بعض ما أنوى الكتابة عنه: ماضينا بحيادية.
أما الخيار الثالث، نسيان الماضى فهو اختيارى المفضل. فدراسة ماضينا لا تفيد إطلاقا لمعرفة المستقبل أو معرفة كيفية التعامل معه. وهذا يختلف تماما عن دراسة ماضى الإنسانية عموما. نستطيع ببساطة أن نأخذ كل التجارب لكل الأمم لاستخلاص كل الدروس والعبر كما يستطيع غيرنا أن يستفيد من تجاربنا. فقبل التقاء الحضارات كان على كل حضارة أن تستنتج دروسها منفصلة عن الحضارات الآخرى. وتطور الأمر بعد ظهور الطباعة والترجمة (الخ) فأمكننا أن نستفيد من تجارب الآخرين.
أما اليوم مع التغيرات المتلاحقة وثورة الاتصالات فالتكنولوجيا هى العامل الأساسى فى تحديد المستقبل. فدراسة التاريخ وخصوصا تاريخ أمتنا ليس مهم أو ضرورى خصوصا حين نتكلم عن تحلية مياه البحر أو الطاقة المتجددة أو مكينة الزراعة ما إلى ذلك وتأثيرها على كل مناحى وقيم الحياة.
وهذا صحيح بالنسبة لكل الأوطان. فلا أعرف ما الذى يستفيده الفرنسى من دراسة نابليون. إذا كانت لاستخلاص الدروس فهذا ليس حكرا على الفرنسيين. وإذا كانت لإعطاء دفعة نفسية للفرنسيين لكى يشعروا بأنهم أعلى من الآخرين أو أنهم ليسوا أقل منهم فالتكنولوجيا اليوم غيرت تماما النعرة الوطنية المتعالية من كونها قيمة حميدة ومثار للافتخار لكونها سبة أو شبه جريمة أسمها العنصرية!
ما أريد أن أصل إليه هو أنه من الأفضل لنا أن نتطلع للمستقبل وألا نبقى أسرى لماضينا. وأحاول دائما أن أكتب عن المستقبل لأهميته وأكتب أحيانا أخرى عن الماضى ليس لأهميته ولكن لأساهم فى كسر الأصنام البالية التى صنعها الإنسان والتى لم تعد مفيدة.