شرارة بثها ماركونى باختراعه أجهزة اللاسلكى والمذياع فى نفوس لفيف من العلماء يتقدمهم "جون بيرد "و" فيلو فرانسوورث " مخترعى بدايات جهاز التلفاز حاصلين على براءات الاختراع تاركين - دون قصد- أفعاهم تبث السم طامس البراءة عبر العصور.
عودة بآلة الزمن إلى عصر ما قبل التلفاز، حيث يبرز دور الثقافة الريادى فى أرجاء المجتمع البسيط ؛ إذ كانت الحياة هادئة تثيرها حكايات أبى زيد الهلالى وغيرها من الأساطير والألغاز يقصها الأب فى حلقة من أفراد أسرته، أو تسكبها الأم فى أذنه صغيرها وقت غفوته فى جو من الألفة والترابط.
ومن ناحية أخرى، يجتمع رجال القرية يحتسون الشاى ويتجاذبون أطراف الحديث ما بين نقاش وجدال فيعرض كل منهم أفكاره وخبراته فى الحياة إلى أن يخلص بهم الحديث إلى فكرة عامة هم المتحكمون فى بلورتها.
ولما أن لذلك الصندوق الأسود أن ينزل بنا تغيرت صور الحياة أيما تغير، فذلك الصندوق يبث لنا الأخبار إلى منازلنا فلا داع إذن إلى اجتماع رجال القرية ولا لمشاركة الأبناء فى بناء الأفكار مادامت تحضر إلينا طازجة، ولا داع من حكايات الأم ليلا فصغيرها يتلقن ما يرغب مباشرة من التلفاز دون جهد منها.
فجّر ذلك الجهاز - الذى لا يخلو منه أى بيت وكأنه دعامته الأساسية – طاقات عدة لدى مجنونى الشهرة وأصحاب المواهب وتجار السلع وما إلى ذلك.. فذلك يعد برنامجا يستعرض موهبة لينقل فكرة جامدة هو بانيها إلى عقل المشاهد، وآخر يعرض سلعته مزخرفة مطلية بالأكاذيب كى يحصد عددا من الزبائن.
سيطر الخمول والجمود على المجتمع بمرور سنين من متابعة جهاز التليفزيون، فبعد روح التفاعل بين الأب وابنه قيد كل منهما لسانه وركز بصره على الشاشة متخذا دور المتلقن ليصير الجهاز هو الموجه الأساسى لدور الفرد بعد أن كان عنصرا فعالا فى الحوار.
مع بداية انتشار ذلكم الاختراع، انحسرت دائرة الضوء على قناتين أو ثلاث يجمع المرء منهم ما ينفعه من علوم أو منتجات... إلخ
أما الآن فقد خلت الساحة لأصحاب الشهرة بانتشار سيل الأقمار الصناعية وتعدد قنوات البث كى يرتعوا تاركين المشاهد فى حالة من التشتت مع مزيد من المتابعة وإضاعة الوقت.
أبى العقل البشرى يوما تقبل فكرة كون المعدن متكلما، ولما صار الحلم حقيقة غفل عن أسمى غاياتة أو بالأحرى الهدف الأساسى الذى من أجله صمم التلفاز ألا وهو تضييق المسافات وجعل العالم أشبه بالقرية الصغيرة منصرفا إلى ملهاته وأفكاره السطحية وتضاءلت خطوات المرء أن لم تكن قد انعدمت تجاه دور الثقافة والمسارح، مبددين أوقاتهم أمام ذلك الجهاز.
أثبتت دراسات علمية حديثة أن كثرة متابعة التليفزيون بألوانه المبهرة تؤثر سلبا على إفراز هرمون الميلاتونين والذى تفرزه الغدة الصنوبرية pineal gland والذى يزيد تركيزه من الرابعة حتى العاشرة صباحا والمسئول عن تنظيم الساعة البيولوجية لدى الإنسان، بيد أن زيادة معدلات جلوس الإنسان أمامه تزيد من معدلات الإصابة بأنواع السرطان ومرض التوحد لدى الأطفال ومرض السكرى من النوع الثانى مصحوبا بأعراض السمنة والتى تعتبر حديثا ضمن أمراض الباطنة.
يقول علماء النفس فى تقسيم مراحل عمر الإنسان: أن الطفل فى مرحلة من سن 2-5 سنوات يبدأ فى تكوين انطباع بدائى عن الأشياء ومن هنا يمكننا فى تلك المرحلة والتى تعد أخطر مراحل عمر الإنسان أن نزرع فيه ما شئنا من الأفكار والقيم ؛ لذا لابد وأن نلتفت إلى ما يتابعه أبناؤنا أمام التلفاز من أفكار لسنا بصانعيها.
الآن فى القرن الحادى والعشرين حيث الاختراعات والاكتشافات وقود أمم تتمدد لتحتل جل أن لم يكن كل خريطة العالم، نفتح جهازنا لنرى أبشع ألوان التدنى والفجاجة، الملايين من الجنيهات تنفق على أعمال درامية وأعمال عنف لا جدوى منها سوى الاستخفاف بعقل المشاهد، ولما نلتفت إلى سعر السلع لا قيمتها المرجوة تبور السلعة، صور مليئة بعرى أو ما شابه مدعمة بأفظع السباب والتى يقشعر منها البدن وجعل قائليها أرباب المجد مما يمهد لهم طريق ألمع للنجومية، ناهيك عن تدنى اهتمام أصحاب النفوذ بالمبدعين منا فى مجالات العلوم والأدب ونحوه مصفقين لصاحب أفضل إسفاف فيصير قدوة يحتذى بها ،وتختلط المفاهيم لدى ضعاف النفوس منا فيتفشى التقليد الأعمى فيهم ممن ترعرعروا فى تلك البيئة العطنة.
" صانع السجائر لا يدخن " الأمر الذى جعل فيلو فرانسوورث _ أحد مخترعى جهاز التلفزيون _ نادما على اختراعه نظرا لسوء استخدام البشر له وأشار فى أحد خطاباته الأخيرة أنه يخشى أن يفسد جهازه طفله، الأمر الذى يدعونا نحن إلى التحكم فى ذلك الوحش الذى سيفسد ما نبنى فى أطفالنا، فماذا عسانا أن نتحكم فى تلك الشبكة القذرة التى لا مردود لقضائها سوى التقليل من تعرض أطفالنا إلى تلك الألفاظ والمشاهد وإشغالهم فى شيء أفضل كالألعاب الذكية والقراءة وممارسة الرياضة ؟!.
من الأفضل أن ينشأ الطفل ناقما على كل تلك الوسائل التى ضررها يفوق نفعها بمراحل؛ كى تترسخ لديه المفاهيم الإيجابية ونعيد له دور الثقافة الذى تحطم إثر تلك التكنولوجيا، ولا يعنى ذلك أن نقطع أواصرها ولكن لنتحكم نحن فى اختيار أنفعها لنا ولا نكون قشة تذروها الرياح أينما شاءت ولكن لنكن نحن الرقابة على البث منعزلين عن ذلك الهواء الفاسد رافعين رءوسنا حتى نتنفس عبق الحياة.