لا أعلم ما هو السر فى مطاردة هذه الحكاية لى فى الوقت الحاضر، إنها حكاية قديمة ترجعنى إلى الوراء أكثر من ثلاثين سنة، حيث كنت طفلا صغيرا لا أعلم من الدنيا الكثير، طفل يقيم فى قرية مجهولة فى صعيد مصر، فى المساء نجتمع وأولاد أعمامى الصغار نلتف حول جدتى، وكانت تجيد فن الحكى، وقد ورثت هذه الموهبة عن جدتها كم كانت تقول لنا.
فى هذه الليلة من الزمن القديم وكان الشتاء يستجمع كل برده ليصبه على قريتنا الصغيرة، مازلت أتذكر هذه الليلة، فجدتى حكت لنا حكاية جديدة لم تقصها علينا من قبل ولم تقصها بعد هذا اليوم.
بدأت جدتى حكايتها بالصلاة على النبى عليه الصلاة والسلام وقالت، فى الزمن القديم كانت هناك أم لها من الأبناء أربعة وبنت واحدة، وقد توفى زوجها وترك لها بيتا تقيم فيه وأولادها، وترك لهم أرضا زراعية كبيرة محيطة بالبيت، وكذلك معصرة لصناعة العسل الأسود، هذا هو الميراث الذى تركه الرجل لزوجته وأولاده، حياة مستقرة ومصدر رزق مضمون، كبر الأولاد وكان البيت قديما لكنه قوى الأساس، بيت من خمسة أدوار وكان هذا الأمر غريبا فى ذلك الوقت، وفى يوم قرر الأولاد هدمه وبناء بيت حديث، الكل وافق على هدم البيت إلا الابن الأصغر والابنة والأم.
قالت الأم، إن هذا البيت بناه أبوكم ليبقى مئات السنين وهو رمز لكفاحه، وإن قمتم بهدمه سيطمع فى أرضه الطامعون، ويتربص بكم الناس حتى لا يتم بناء المنزل مرة ثانية، لكل واحد منكم دور خاص به، فليصلح دوره من البيت كما يشاء ويصنع التعديلات التى يريدها، لكن لا تفكروا فى هدم البيت.
احتد النقاش بين الأبناء حتى وصل لمرحلة التشابك بالأيدى وارتفع صراخهم، البعض يريد هدم المنزل القديم، والبعض يرى عمل إصلاحات وتعديلات دون هدمه، جلست الأم تبكى تفرق الأولاد واختلافهم، وظلت تبكى وتقول لأولادها ستندمون على هدم البيت حينما لا ينفع ندم.
فى صباح اليوم التالى اتفق الأولاد الذين يريدون هدم البيت، وأتوا بالعمال وبدأ الهدم، وجلست الأم وابنتها والابن الأصغر على الأرض بعدما فشلوا فى إقناعهم، وفى خلال سبعة أيام أصبح البيت كأن لم يكن، وسكن الأولاد عند أقارب زوجاتهم، عدا الأم وابنتها والابن الأصغر فقد أقاموا خيمة بجوار البيت المتهدم وعاشوا فيها.
وعند الموعد المحدد للبناء اختلف الأبناء الثلاثة فى شكل البيت وطريقة بنائه، واختلفوا على مكان سكن كل واحد منهم، واشتدت بينهم المشاكل حتى قرروا أن يقتسموا الأرض ويبنى كل واحد منهم بيتاً خاصا به، كل هذا ودموع الأم لم تجف وهى ترى تفرق أولادها واختلافهم.
وجاء بعض أهالى القرية إليهم يدعون أن لهم نصيبا فى الأرض التى كان عليها البيت، فأجدادهم أصحاب هذه الأرض منذ زمن بعيد، واشتدت المشكلات حول الأولاد وأهملوا الأرض والمعصرة، وبدأت حالتهم المادية تسوء.
ومع مرور الوقت ودخولهم فى صراعات مع الذين يريدون الاستيلاء على أرضهم استدانوا مبالغ كبيرة، ووضع أصحاب هذه الأموال يدهم على المعصرة والأراضى الزراعية.
خسروا كل شىء، وفى النهاية أقاموا عند أمهم فى الخيمة التى تطل على أنقاض البيت.
انتهت حكاية جدتى منذ كنت فى العاشرة من عمرى، ولكنها لم تلح على كما تلح الآن، إنها حكاية جدتى التى حكتها لنا مرة واحدة.