د.مصطفى النادى يكتب: عن الدولار والتحكم فى الاقتصاد العالمى أتحدث

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة دخلت عبارة جديدة المعجم الاقتصادى: "نقص الدولار"، كانت الاقتصادات الأوروبية تحاول التعامل مع الأضرار الشديدة المرتبطة بالحرب ومجموعة واسعة من المعوقات التى كانت تثبط جهودها الرامية إلى إعادة بناء قواعدها الصناعية. وفى ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة الجهة الوحيدة القادرة على توفير المعدات الرأسمالية اللازمة لإعادة التعمير. وعلى هذا فلم يكون بوسع الاقتصادات الأوروبية الحصول على المدخلات اللازمة لزيادة صادراتها من دون القدرة على الوصول إلى الدولار الأميركى. ومع شُح العملة الصعبة (الدولار الأميركى أو الذهب) أو الافتقار التام إليها، وضآلة احتمال الحصول على الدولار من خلال عائدات التصدير، حاولت الاقتصادات الأوروبية تقليص عجز حسابها الجارى من خلال ضغط الواردات من الدول الأوروبية الأخرى (فى الأغلب). وكان من المتوقع أن يؤدى ضغط الواردات إلى السماح لها بجمع القدر الكافى من الدولارات لشراء الواردات الرأسمالية من الولايات المتحدة. لكن لأن دولا عديدة وظفت نفس التكتيكات فى البيئة حيث كانت مجموعة واسعة من ضوابط رأس المال قائمة وكانت أسعار الصرف الرسمية مربوطة بالدولار الأميركى، ازدهرت سوق عملة موازية. وارتفعت علاوة السوق السوداء (نسبة إلى سعر الصرف الرسمى) فى أغلب الدول الأوروبية (واليابان) إلى عنان السماء خلال أوائل الخمسينيات، فبلغت مستويات نميل الآن إلى ربطها بالأسواق الناشئة "غير المستقرة". اليوم، بعد مرور سبعين عاما، وبرغم الاتجاه العالمى العريض نحو قدر أكبر من المرونة فى سياسة سعر الصرف وحرية حركة رؤوس الأموال عبر الحدود الوطنية، عاد "نقص الدولار" إلى الظهور. الواقع أن السوق الوحيدة المزدهرة على مدار العامين الماضيين أو نحو ذلك فى العديد من الدول النامية كانت السوق السوداء للنقد الأجنبي. وعادت أسواق العملة الموازية، للمتاجرة فى الدولار غالبا. بيد أن مصدر نقص الدولار هذه المرة ليس الحاجة إلى إعادة التعمير بعد صراع (وإن كان هذا من العوامل المساهمة أيضا فى بعض الحالات). فما حدث هو أن الدول فى أفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا الوسطى، وأميركا اللاتينية ــ وأبرزها فنزويلا ــ تلقت ضربة شديدة بفِعل تراجع أسعار النفط والسلع الأساسية منذ عام 2012. بعد "طفرة رواج" طويلة ومذهلة شهدتها أسعار السلع الأساسية منذ السنوات الأولى فى القرن الحادى والعشرين، والتى كانت مدفوعة إلى حد كبير بازدهار الاستثمار فى الصين، تراكمت لدى العديد من الدول المصدرة للسلع الأساسية مستويات مرتفعة تاريخيا من الاحتياطيات من النقد الأجنبى. وكانت هذه الاحتياطيات محفوظة فى هيئة أصول دولارية فى الأساس، خاصة سندات الخزانة الأميركية. وخلال سنوات طفرة الرواج، ربما كان تجنب ارتفاع قيمة العملة أو الاعتماد على ارتفاعها التحدى الرئيسى الذى واجهته العديد من البنوك المركزية. وفى هذه البيئة المبهِجة، ذهبت بعض البلدان إلى ما هو أبعد من ذلك فتبنت (مرة أخرى) سياسة ربط عملتها بالدولار. أما عن الدول التى تبنت أسعار صرف أكثر مرونة ــ روسيا والبرازيل وكولومبيا بين دول أخرى عديدة ــ كان التراجع الأولى لأسعار النفط والسلع الأساسية نذيرا بموجة من "انهيارات العملة"، فى حين شهدت الدول التى حافظت على ترتيبات أكثر جمودا فى التعامل مع أسعار الصرف خسائر سريعة من احتياطياتها. ولأن هبوط الأسعار استمر بلا انقطاع، بدأت ضوابط رأس المال تُفرَض بإحكام وجرى تعديل سياسة ربط العملات أو التخلى عنها تماما. ولم يكن تغريم، أو تهديد، أو حتى سجن تجار العملة فى السوق غير الرسمية ناجحا بشكل خاص. كانت أزمة الدولار حادة بشكل خاص فى دول مثل مِصر، ونيجيريا، وإيران، وأنجولا، وأوزباكستان، وجنوب السودان، بين دول أخرى عديدة. وفى ميانمار، حيث كانت أسعار الفائدة موحدة منذ عام 2012، أعيد تنشيط سوق الدولار الموازية. والواقع أن هذه الظاهرة أكثر انتشارا وتعقيدا وتنوعا ــ ولكن من المفيد التركيز على حالات أكثر تطرفا. يشير بحث فى المقالات الإخبارية فى الفترة من 2000 إلى 2016 عن صرف العملات الأجنبية، حيث تظهر مصطلحات مثل "نقص الدولار، و"السوق السوداء"، و"الأسواق الموازية" إلى أن المخاوف من نقص الدولار تصاعدت فى عام 2008، فى خضم أزمة مالية عالمية. لكن الزيادة منذ عام 2014 كانت أكثر ثباتا. ولم يقض تعويم سعر الصرف تماما على علاوة السوق الموازية فى دول مثل نيجيريا، حيث لا يزال تقنين الدولار غالبا بحكم الأمر الواقع. وفى الوقت نفسه، لن يعمل انخفاض أو خفض قيمة العملة (والذى كان أكثر وضوحا فى السوق السوداء) على تعزيز الصادرات كثيرا، لأن سلعة أساسية واحدة أو مجموعة من السلع الأساسية ــ والتى تظل أسعارها كاسدة ــ تهيمن على القطاعات القابلة للتداول فى هذه الدول، فى حين يجرى تقويم الديون العامة والخاصة بالدولار الأميركى. المسألة الأكثر إلحاحا هى أن نقص الدولار تحول إلى نقص فى المواد الغذائية فى دول مثل مِصر وفنزويلا، فضلا عن قسم كبير من جنوب الصحراء الكبرى فى أفريقيا، والتى تعتمد بشكل كبير على الواردات الغذائية. ونظرا لضغط الواردات، والندرة الناتجة عن ذلك، وأسعار السوق السوداء التى ارتفعت إلى عنان السماء، أصبحت الشرائح الأكثر ضعفا من السكان عُرضة لخطر حقيقى. كانت خطة مارشال مصممة لتخفيف نقص الدولار فى أوروبا ما بعد الحرب من خلال توفيرها السخى للمنح. ولا يلوح فى الأفق أى نظير لخطة مارشال فى العصر الحديث. ولكن من المعقول فى السياق الحالى أن نتوقع شيئا شبيها بما حدث فى ثمانينيات القرن الماضى، عندما كانت الدول الناشئة والنامية التى تسعى إلى تطبيق برامج صندوق النقد الدولى أكبر عددا. ولعل هذه تكون فرصة للصين لشغل الفراغ عند القمة.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;