نادر أن تسير الآن، وتتطلع لوجوه من حولك، فكل له شأن يُغنيه، وكلّ لديه من هموم الحياة ما يكفى للاستغراق فيها والغفلة عماّ حوله .
كان يُقنع نفسه بهذا الحوار كل فترة كلما قابل أو اصطدم بأحدهم وتذكره بعد معاناة ومشقة مع الذاكرة والحياة .
رأيته ذات مساء أثناء عودتى بمن يقتحم على طريقى ويطلب بصيغة الأمر" إثنين جنيه سلف " اعتدت على أنماط مختلفة من التسول وبعضها كان فج وأخرى تتم بأدب، لذا لم أعر السائل إهتماما، وبحثت فى جيوبى عن فكةّ كى أمنحها للسائل حتى أتخلص من عبثية الموقف، لكن أعيانى البحث ,فآثرت أن أمنحه بضعة جنيهات ورقية, أعطيتها للسائل دون تركيز، فرفضها ونهرنى بصوت عال: أنه لا يطلب سوى جنيهين اثنين لا غير ..
لم أميّز الصوت ولا صاحبه، لكن اضطررت تحت تأثير الموقف و رد الفعل أن أمعن النظر إليه، كان أشعث الشعر زائغ العينين، لحيته مرسلة على غير تنسيق، بها مناطق يغزوها الشعر بكثافة وأخرى يجدب كأنها صحراء جرداء، ملابس رثة توحى أن صاحبها لم يخلعها عن جسده منذ شهور، ينتعل حذاء، شكلا لكنه اقرب للحفاة واقعا .الشكل منفّر للغاية وقد جاهدت حتى أتذكّره.
عدت بذاكرتى للوراء لسنوات بعيدة جدا، بدايات الثمانينيات، تذكرته وكأنه عائد من غياهب الماضى " عبد الرحمن " زميلنا بالكلية، كان أكثرنا ثقافة وإجادة للغات وميلا للسفر للبلدان الأجنبية فى الأجازة الصيفية كان يضج بالحيوية والحبور ودائما يشغل حيزا فى أى مكان، تأثيره كان واضحا فيمن حوله، أعرفه قليلا، أدرك أن وجوده كان حاضرا بلباقته وأدبه مع الجميع وطموحه اللانهائى ..
بنهاية السنة الثالثة، لا يدرى أحد ما حلّ به، اختفى أو انزوى عن المحيطين، قيل أنه كان يعيش وحده بمنزل كبير ورثه عن أبويه، وأن الوحدة كانت اقوى منه فكسرته، فهجر الدنيا واختفى سنوات كثيرة حتى نسيه الناس وأصبح لديهم مجرد ذكرى جميلة .
تحرّيت حالة من أعرفهم ويعرفونه قديما، أنكروا علمهم بما أصابه، قالوا باختفائه سنوات ثم ظهوره من جديد فى صورة متشرد، كان يعى جيدا ما حوله ويتذكر دائما زملائه، ودليلهم أنه ما سأل إلاّ من يعرفهم من الزملاء وأنه لا يسأل أبدا إلاّ عّما يحتاج إليه لا أكثر ولا أقل .