كلما قاربت على الوصول تسارعت نبضات ذلك الشقى بين ضلوعى، تتدافع الدماء فى كل شرايينى وتهمل نصيب قدماى فترتعشان كأقدام طفل صغير يجرب المشى لأول مرة. فالسفر صوبه يشبه تسلق قمة جبل شاهق الارتفاع.. تتابع الأنفاس متلاحقة.. تتسارع... تتقطع... ولا تطيعنى فى طلب المزيد من الهواء والصبر. وعيناى وقد قررت أنها لن ترى أحد طالما هى فى انتظاره، فأتشاغل بالنظر إلى قطط الشوارع التى تقابلنى أثناء سيرى، فتفزع وتتوارى بمجرد رؤيتى فيطالنى فزعها أحيانا.
تتابع البنايات والبشر حولى فى الطريق لكن لا أرى سوى وجهه يقترب، يدنو ويدنو وكلما هممت أن أبلغه أجده يبتعد كسراب كاذب. هكذا أنت أيها الحلم الساحر، فأنا كلما شربت من واحتك ازدادت عطشا و الارتماء فى مدارك لا يزيدنى سوى تعب، و العدو نحوك لا يذيدنى سوى نوى.
فى الانتظار لا أغانى ترضينى ولا نغمات، فى الانتظار لا صوت إلا الصمت، إلا صراخ الوقت ولحن الانتظار المفعم بالحنين، المتوثب إلى الخلاص... إلى النجاة والنجاح، فما فائدة الأغنيات؟!. لكن لم يبق إلا القليل. نظرت إلى ساعة عمرى فوجدت العقارب تتأرجح فى جنون وهنا تتضح لى النسبية كما لم تتضح لأينشتاين ذاته. ففى حضرتك يعدو الزمان عدوا، حتى أن الدقائق تتعثر فى ثوانيها، وتحتار عقارب الساعة إلى أى زمن تشير. أما أنا فأكون قد وصلت لعالم آخر، قد التحقت بتقويم جديد لا تعرفه سوى أرض الأحلام. وعندها يا سيدى أحاول أن أختزن قليلا من السعادة تعيننى فى صحارى وحدتى، أجرب أن اختزن صوتك.. بعض النجوم من عينيك.. انفراج شفتيك عن كلمات عسلية.. وأعيد حفظ ملامح وجهك كتلميذ مجتهد ونقشها على كل جدران ذاكرتى بالنار.
عندها أتذكر كيف كان يحبو الزمن فى انتظارك، كيف كان يمر ولا يمر، كيف كان يزحف زحفا كأنه يسبح فى طحالب لزجة..
القليل فقط واصل، وعندها أطرق الباب وأدخل وأشغل مقعدى المفضل المعد لى وعندها سانسى اضطراب الدماء فى شرايينى ولن يصل صوت أنفاسى المتتابعة إلى أذنى. عندها سأتفرغ لارتشاف صوته، وأجمع فى حقيبتى الصغيرة نجوما تمطرها عيناه. لكن الآن قدماى تتعثر فى الطريق وتكاد تتوه رغم أنها تعرف الطريق جيدا، يرسمانه كل ليلة وكل صباح. تتردد قدماى للحظات وتفكر فى طريق العودة ولو تأثر السلامة تعود ادبارها.
وها انا يا سيدى الحلم أوشكت على الوصول لكن لما يبدو الطريق طويل إلى هذا الحد؟! لماذا الطريق إليك شاق يكتنفه التعب والتردد ؟! لكن لا داعى للشكوى، قالوا: "أحمل عبء قلبك وحدك"، احفر هوة عميقة القى فيها بكل يأسك .. والقى معه ببذرة، غدا سوف تزهر شجرة حكمة لتظلل على عقلك ..
وها هو قلبى تسارعت دقاته أكثر وقدماى مازالتا تتعثران وتوصلان محاولة الركض حتى أخيرا وصلت إلى الباب المنشود لكن قد ذابت يداى ولم تقوى على نقر بابك .. فجلست أزيل بقايا معركة الانتظار .. وأنتظر غد آخر أواصل فيه متعة الانتظار... غد آخر يمنحنى عهد جديد والقليل من القوى علها تكفى لنقر الباب.. أو علها تأتى ضربة حظ عمياء وتلقى بى فى عالم السعداء... حيث صوتك وكلماتك ونجوم عينيك.