إن مسألة تجديد الخطاب الدينى أو الاجتهاد ينظر لها كل من المتشددين والمتساهلين نظرة مختلفة، وهذه النظرة المختلفة أوجدت فجوة كبيرة وواسعة فى التواصل بين الطرفين، فيرى المتساهلون أن الحل هو تقديم العقل على النقل بمعنى تغليب المصلحة على النص، وتقديم مبدأ الصح والغلط على الحلال والحرام، ويؤكدون دوماً بأنهم لا يريدون نقض كلام الله ولكن يريدون نقض فهم الآخرين لكلام الله، ولا يرون أى مشكلة فى التعرض لبعض الثوابت ( كما يسميها معارضيهم (.
ويرى المتشددون أن العقل له حدٌّ ينتهى إليه، ومجالٌ لا يتجاوزه، وقَدْر لا يتخطَّاه، وعلى العقل الخضوعُ التامُّ، والتسليم المُطلق لحكم النَّقل، ويرى كثير منهم أن الراغبين فى التجديد يريدون التعرض لثوابت الدين، ويؤكدون على أن التجديد يقتصر فقط على التمسك بمنهج السلف الصالح والبُعد عن البدع .
وهنا تبرز المشكلة ونقطة الخلاف ولن تُحل أزمة تجديد الخطاب الدينى إلا بأخذ هذه المعضلة فى الحسبان، وأرى أن الحل الأوحد هو تقليل المسافة بين الطرفين عن طريق احترام العقل والنقل معاً، ويمكننى تقديم بعض الحلول فى هذه النقطة باعتبارى مدرب تنمية بشرية متخصص فى تجديد الخطاب الدينى بمرجعية 10 كتب معتمدة من الأزهر، ومن هذه الحلول :
1 -الاحتياط فى قبول ما صح فقط فى التفسير وأسباب النزول لتضييق الآراء المختلفة والواردة فى التفسير ضماناً من التوسع فى الدخول فى مفاهيم خاطئة مسيئة لصحيح الدين ( ولا أعنى التطرق لأحاديث الصحيحين، بل فى خارجهما ما هو متفق على ضعفه وفيه مخالفات واضحة (.
2 - التفرقة بين المجدد، وبين مبلّغ وناقل الخطاب الدينى الجديد، فالمجدد هو ليس فقط كل داعية أو إمام، بل هو الشخص الذى تخصص فى العلم الشرعى وملك آلياته وأصبح باحثاً شرعياً، واستطاع أن يتعامل مع النص الشرعى بما لا يخالف أصل الشرع، أما ناقل الخطاب الجديد أو مبلّغه فهو كل شخص يتعامل مع الناس ويخاطب الآخرين فهو يحتاج إلى خطاب دينى سمح وراقى لا يقوم على ازدراء الآخر أو التنفير، وحتى هؤلاء من غير المتخصصين لابد وأن ينقلوا عن أهل الاختصاص والعلم .
3 -اتّخاذ مرجعية موحدة للخطاب الدينى الجديد تصلح لكلا الطرفين وهى المرجعية التى اعتمد عليها العقلانيون السابقون أمثال الأئمة ابن رشد ومحمد عبده وأمثالهم وهى وجود سند وأصل شرعى للأمر المراد تجديده من فعل الصحابة والتابعين كما ثبت فى مسائل الإشهاد على الطلاق كحل لتقليل نسب الطلاق، وكتأويل حد الردة وقصره على الذى يحارب الدين، فإن من أشد أخطاء الغالبية العظمى من العقلانيين والمثقفين هو استخدام العقل منفصلاً عن الدليل الشرعى المقنع لمحاولة إقناع الشخص المتشدد والمطلوب تغيير خطابه أو أفكاره، وأحياناً يُخطى كثير من المثقفين بازدرائهم والتهوين من أفعال وممارسات وأفكار الطرف الآخر المتشدد، وهذه كارثة بل من أعظم الكوارث والأخطاء فى تجديد الخطاب الدينى، فلم ولن يقتنع صاحب الخطاب الدينى المتشدد بهذه الأدلة العقلية لأنها تتعارض مع أصول منهجه القائم على النصوص الدينية والنقل، وإن كان يُعذر العقلانى المثقف لعدم إطّلاعه على ثغرات بأدلة شرعية لنسف الأدلة المتشددة إلا أنه لن ينجح فى تغيير الخطاب الدينى المتشدد، فعلى الراغب فى تقديم وتبليغ خطاب دينى سمح جديد أن ينقل عن الباحثين المتخصصين والمعتدلين أدلة شرعية وقوية جداً مؤيدة لفكره العقلانى .
4 - ترك الاعتماد على الحديث الضعيف فى الأحكام والحلال والحرام، والموجود خارج الصحيحين، فيجب على راغبى تجديد الخطاب الدينى من المتساهلين ألا يضيّعوا وقتهم فى التعرض لأحاديث الصحيحين لأنه أمر لن يسمح به المتمسك بالنقل أبداً، فأغلب الفتاوى المتشددة مبنية على أحاديث ضعيفة خارج الصحيحين، ويمكن إسقاطها بسهولة لأسباب منها ضعف إسنادها، ولتضعيف العلماء لها، أو لمخالفتها المنهج السمح للدين، والدعوة لعدم الاستشهاد بالضعيف فى الحلال والحرام من الأمور المتفق عليها عند السلف.
5 - التركيز على صفات يجب أن تتوافر فى هذا الخطاب الجديد ومنها اشتماله على النفع للإنسان واهتمامه بالأولويات، وعدم التركيز على أمور اندرست أو قل احتياجها ولا نقول إنكارها، بل الإشارة إليها بتلخيص شديد، كأن نقول ويمكن عند حدوث كذا يُفعل كذا لدليل كذا.