ضياء الدين الهمامى يكتب: خطيئة الواقع الافتراضى

لم يعد الواقع الافتراضى جزءاً مهما من حياتنا فقط، بل إنه يشغل فعلياً مساحات واسعة من ممارساتنا اليومية وما يقوم به الناس من أنشطة مختلفة اتصالية وتعليمية وترفيهية واجتماعية وأسرية وغيرها، وقد ساعدت تكنولوجيا الإعلام والاتصال الجديدة والتى تتلاحق ابتكاراتها ومنتجاتها فى الظهور عبر شاشات مختلفة الأحجام والمقاسات بدءاً من تلك المحمولة فى راحات أيدينا وانتهاءً بشاشات السينما التى قد تتيح لنا الولوج إلى داخل العالم الافتراضى ذاته لنصبح جزءاً منه، على تأكيد وجود هذا الواقع المفترض وتشكيل ملامحه، بل وأحياناً طرح منظومة قيمية وفكرية وعقائدية مقترنة بهذا الواقع وملازمة له عند الاستخدام الإنسانى لها يتم استدعائها تلقائياً. تلعب الميديا الدور الرئيس فى بناء وتشكيل ما يسكن الوجدان الإنسانى العام من عوالم افتراضية فى جميع مناحى حياته، وما الصور والنماذج والأنماط التى يتم الدعاية و الترويج لها عبر المنتجات الإعلامية البراقة كالإعلانات والبرامج والمسلسلات و الأفلام والأغانى والحلقات الكرتونية و المواد الإذاعية بل ونشرات الأخبار سوى أبطال لاعبين فى هذا العوالم الافتراضية بحيث يمثل كل منهم دور محدد لرسم نمط وتشكيل صورة وبناء معتقد وتقديم نموذج وهى جميعاً بلا استثناء منتجات "مقولبة" سابقة التصنيع وجاهزة للاستخدام المباشر من قبل الأفراد. ما تقدمه الميديا من صور ونماذج وأنماط يمتد ويتسع ليشمل كافة الأنشطة يمكن أن يقوم بها الانسان فى حياته اليومية سواء العامة أو الخاصة، بما فى ذلك كل ما يمكن أن يستهلكه خلال هذه الممارسات من منتجات وسلع، فتناول الطعام والشراب وما يرتبط بهما من مفاهيم الجوع و العطش و الشبع و الارتواء، وارتداء الملابس و ما يرتبط به من مفاهيم الشكل والمظهر والأناقة والجمال، وامتلاك الأشياء كالسيارات و المساكن وما يرتبط بهما من مفاهيم الرفاهية والرقى والفخامة والثراء، والعلاقات مع الآخرين وما يرتبط بها من مفاهيم السيطرة والتأثير والاتفاق والاختلاف، جميعها منتجات يتم بثها ليلاً ونهاراً بلا توقف لتعمل على إزاحة الموجود واستبداله بآخر يكتسب شرعيته لحظياً مع استخدامه لآليات التكرار و الاستمرار. تطرح هذه القدرة الخارقة على صناعة العوالم الافتراضية من قبل الميديا أسئلة مهمة حول تأثير هذه المنتجات سابقة التصنيع على الثقافات الأصيلة للمجتمعات وعلى مفردات الهوية الذاتية المميزة للجماعات البشرية من لغة و قيم وعادات وتقاليد ومعتقدات وأنماط حياة، حيث تعمل الآلة الجهنمية للدعاية والإعلان على إزاحة الصور والأنماط والنماذج الموجودة بالفعل لتحل محلها أخرى أكثر بريقاً و تشويقاً وأنصع ألواناً وأقوى إبهاراً بل وتحظى بقبول جماهيرى ويتم نشرها على مستوى عالمى عابر للثقافات والمجتمعات، فمن يستطيع الصمود أمام هذا التيار الجارف؟؟ حتى الان لا يوجد !! انتبه الباحثون والمحللون لهذه الآثار الخطيرة للميديا وشرعوا فى تصويب سهامهم نحو آليات عملها وأن تغيير هذه الآليات أصبح ضرورة حفاظاً على مقومات الثقافات المحلية للمجتمعات خاصة تلك الكائنة فى الدول الهامشية الواقعة فعلياَ فى أسر التبعية بأبعادها المختلفة، وأشاروا إلى أن التغذية الهجينة لهذه الثقافات لن ينتج عنها سوى كائنات ممسوخة شكلاَ ومضموناَ، المعضلة أن تغيير الآليات لم يعد ممكناً بل أن العودة بعجلة التطور التقنى إلى أى مرحلة سابقة لم يكن موجوداَ وليس بالإمكان إيجاده فى أى وقت لاحق، حيث تدور وتتقدم هذه العجلة بقوة الدفع الذاتى وبقوانين هندسية وميكانيكية وإليكترونية منفصلة تماماَ عن معطيات الواقع الإنساني. ما يبدو لى أن محاولات الإصلاح المرتكزة على فكرة تغيير الآليات ليست فقط غير ذات جدوى، بل أن عمليات بناء الصور و النماذج والأنماط والتى تعد المحصلة النهائية لعمل الميديا هى فى الحقيقة نتيجة لا يمكن الفكاك منها بأى حال، وليست هناك وسيلة تحول دون وظيفة الوسيط فى تقديم قوالب محددة لعوالم افتراضية، كما لم يعد بالإمكان الإستغناء عن دور الوساطة بأى حال، فالخطيئة إذن لا تكمن فى عمليات بناء الواقع الافتراضى المغاير للحياة المعاشة حيث أنها محتمة، بل هى فى أن يتضمن هذا الافتراضى عمداً على محتوى يدعم فى غاياته الأخيرة قيم الهشاشة والسطحية و العنف والمظهرية و الأنانية و الغرور و التمركز حول الذات و تغليب قيم الصراع كأسلوب حياة والانتهازية كنمط تعامل والاعتداد بكل ما هو شكلى وخارجى وبرانى على حساب كل ما هو جوهرى وداخلى و جواني. نستطيع القول بأنه ما من إنسان يحيا إلا و يرافقه عالم افتراضى تلقائى أو مصطنع، وهذا القرين يمثل أفقاً للغد وتصوراً لمابعد بقدر ما يشكل رؤية آنية للذات والعلاقات والمعاملات، ولايزال فى قدرتنا الانتباه لما لدينا ملامح عالم افتراضى واتخاذ ما ينبغى علينا للحفاظ عليه ليصبح بإمكاننا الوقوف على أرضيات مشتركة ومساحات للاتفاق بدونها لا يمكن الوصول لأى تنمية أو تقدم حقيقي، ذلك أن الخيار الآخر وهو الاستسلام لمحصلة الآلة الإعلامية التى لن تتوقف ليس له سوى نتيجة واحدة مفادها أن نحيا مجبرين مغتربين فى عالم صورى نماذجى نمطى افتراضى سطحى لم نكن نحن صانعيه .... ولن نكون!



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;