شردت بذهنى لا أدرى لماذا استقرت عينى على فنجان مقلوب بشكل منسق بين إخوانه فى دولاب الفضيات، وعندما طال الوقت وتنبهت أن بصرى معلق به دون عمد منى؛ بدأت أدرك أن الأمر ليس فى ذلك الفنجان بقدر ما هو بذات نفسى.
لقد أثار الفنجان -دون قصد منه- حنينا لزمن جميل مضى.. زمن يحمل عبق فنجان من القهوة، أو رائحة نعناع فى كوب شاى قُبيل المغرب، أو بعد العصر، زمن كان فيه رفاهية الدفء بجوار من تحب، هل هو صديق أو قريب أو ... على أية حال كان .. المهم أنه موجود لديه من الوقت أن يسمعك ويتحدث إليك. زمن كنا نلتقط فيه أنفاسنا بهدوء، فضلا عن السعادة.
نحن الآن نعيش فى غربة داخل أنفسنا صنعناها بأيدينا، إلى أن اتسع الرتق على الراقع، وأصبحنا داخل شرنقة حريرية.. نعم حريرية تجلب لنا المال، وتسلب منا السعادة وراحة البال، وليسأل كل منا نفسه كم من الزمن مر، دون أن يلتقى بإخوانه، وأقاربه، وصحبته .. هؤلاء هم المصل الواقى للغربة التى نعيشها الآن.
وأتساءل لماذا أصبحت حياتنا خالية من أبسط المتع، لماذا يضيع العمر فجاءة؛ لنشعر أننا لم نستمتع بعد بمن نحب، وأننا كنا بعيدين بمحض إرادتنا لا رغما عنا، ولكن الجميع يتعلل بالظروف وضيق الوقت، تمر الأيام، وتتولى السنون، وتتزاحم علينا المشاغل والهموم؛ لنجد أنفسنا أمام النهاية دون شعور منا.. ونكتشف فى تلك اللحظة أننا نسينا أن نعيش.. نعم نسينا أن نعيش.. وبعد كل هذا ماذا أخذنا؟ وأنى لأتذكر الراحل يوسف إدريس وهو يقول: "علينا أن نتحمل عبء حياة درسنا فيها وضيعنا طفولتنا، واجتهدنا وضيعنا صبانا، وكافحنا وضيعنا شبابنا، وفى مقابل هذا العمر الطويل المفقود ماذا أخذنا؟"