أديبنا الراحل "يوسف الشارونى" قال عنه الأديب نجيب محفوظ، «لقد انتهيت فى القصة القصيرة بما بدأ به يوسف الشارونى»، إنتاج قصصى غزير كما فى؛ «العشاق الخمسة»، «رسالة إلى امرأة»، «الزحام»، و«حلاوة الروح»، و«مطاردة منتصف الليل»، و«آخر العنقود»، و«الأم والوحش»، و«الكراسى الموسيقية»، و«المختارات»، و«الضحك حتى البكاء»، و«أجداد وأحفاد»، و«الغرق» فى الرواية، و«ومضات الذاكرة» فى السيرة الذاتيّة، وإنتاج كبير فى النقد الأدبى مثل؛ «مع الرواية»، و«من جراب الحاوى– دراسات فى القصة القصيرة»، وقد تُرجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية طويل من الإبداع، لكننى توقفت هنا أمام "المساء الأخير"
" أعدك أنى سأظل سائِرًا إلى الأمام،
إلى فوقٍ دائما،
إلى الأعماق دائما،
ولن تعرف نفسى الموت،
بل دائما سأقدم لك وجها
يضىء بالنور والدموع ..."
هكذا استهل مبدعنا الكبير "يوسف الشارونى" كتابه الوحيد فى النثر الغنائى "المساء الأخير".. ورغم إصداراته العديدة إلا أننى توقفت كثيرا أمام هذا الكتاب الذى نشرت نصوصه للمرة الأولى على فتراتٍ بمجلة الأديب البيروتية من 1946 وحتى 1952 ثم تم جمعها فى كتاب فى 1963 كطبعة أولى، ثم صدرت طبعته الثانية بعد ثلاثين عاما فى عام 1994.
والمساء الأخير له خصوصيته، فنصوصه ليست نتاج فكرة محددة لكنها تضج بشعورٍ طاغٍ، فهذا المبدع الذى تمتلئ روحه بالمحبة والتسامح الشديدين يعزف على وتر الشوق الحزين والقلق طوال الوقت، الكتاب يضم نصوصا سابقة لما قبل مرحلة النضج وهذا هو الذى دفعنى للوقوف أمام الكتاب، لأننا لم نعتد على الكتب التى تبنى فى الأساس على تجاربنا الأولى من خواطر، وجعلنى أتساءل كيف نهمل كتاباتنا الأولى ونلقيها فى أدراج النسيان خجلا رغم أنها تكون مشحونة بعواطف صادقة ومتأججة بدلا من أن نقف أمامها طويلا ونعيد صياغتها ونقوم باحيائها من جديد ربما تكون شعلة لغيرنا ذات يوم .
هذه النصوص بدأ الشارونى فى كتابتها فور تخرجه من قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، وكان مازال متأثرا بالعديد من الفلاسفة ومشاعره لم تنضج بعد ولم تتضح لديه ملامح مشروعه الإبداعى. لكنه يتطلب جهدا بعض الشىء فى التلقى ولا يخلو من الصياغة القصصية وملامحها الأولى .
ينقسم الكتاب إلى ثمانية أقسام، القسمان الأول والثانى يتحدث فيهما الشاعر عن علاقته بمحبوبته ومجتمعه ويبدأ من الباب الثالث ظهور الاختلاف فى صياغة نصوصه بموضوعية أكبر نظرا لسيطرة العنصرين القصصى والفلسفى بصورة أكبر على النصوص، وفى الباب الرابع تتأكد ملامح تجربته ويبدو ملمح التصوف جليا فيما يكتب :
" أنت تعلم أننا قادمون -
فهب لى أحبك
حتى يحتوينى الخلود "
وأنت تعلم أننا محدودون،
فهب لقلبى يا إلهى أن يهيم باللامحدود .
القسم الخامس يبدأ فى التعبير عن انتهاء تجربة الحب، وكذلك السادس والسابع الذى جاء بعنوان" ألحان جنائزية" اتسمت القصائد فيهما بقدرة أكبر على الصياغة القصصية واللغة الأكثر جمالا ورومانسية.
استطاع الشارونى فى تجربته الأولى فى المساء الأخير، أن يتعامل بحرية كبيرة فى التعبير وبعفوية إلا أنها تحت سيطرة قيود كثيرة كاللغة القوية البناء وثراء مفرداته
لابد أن تنصت من أجل أن تسمع،
الصمت فى الأعماق،
والهمس فى الضجيج والسر فى الأنغام،
لابد أن تتطلع من أجل أن ترى فى نفسك الألوان،
فى ليلك الفجر،
فى الغابة الطريق
لابد أن تقرع من أجل أن تدخل عالم المجهول
ودنيا المستحيل
هذا الكتاب ينتمى إلى الأدب العقلى الرفيع الذى يتطلب من القارئ جهدا كبيرا من الفهم مع التركيز والانتباه ومن هنا كانت الأهمية الأولى لهذا الكتاب فهى محاولة جزئية لانتشال الأدب الحديث من براثن الكسل الفكرى الذى خيم عليه أنذاك تارة تحت الواقعية وتارة أخرى تحت اسم اللامعقول والكتاب يعتبر وثيقة نرصد فيها مرحلة من مراحل النضج الفكرى للشارونى الدوامات النفسية والفلسفية التى اعترضته فى فترة التكوين الأولى .
فى الجزء الثامن والأخير من الكتاب "بين الحلم والتجربة"، كان عبارة عن مذكرات الشاعر على مراحل متفاوتة بدأها من 9 سبتمبر 1945 وانتهت ب 7 يوليو ... هذه المذاكرات نسجها الشاعر بنسيج لا يختلف عن نسيج نصوص الكتاب فقط بقدرةٍ أكبر على صناعة السرد القصصى . غير أن كتابه لا يخلو من الاشارات والرمزية حول هذا العالم المحيط به ورغم كل هذا البوح عن ذاته وما يدور بها من استفهامات داخل النصوص، إلا أن الكتاب انتهى وكأنه يقول "بأن ما داخلى أكبر من أن أبوح به" أو كما يقول فى نهاية كتابه:
- " فهو لا يمكن أن يبدأ إلا إذا وَثَقَّ بنفسه أولا وبالإنسانية، إذا آمن بالحياة والوجود، وليست المشكلة مشكلة إيمان بحقائق أو وقائع بقدر ما هى مشكلة الإيمان بقيم ........"
فالكتاب فى مجمله صورة مجسمة لقضية التعبير عن الحب فى أعظم صوره كما يعيشها الفنان ويشعر بها ويعبر عنها، ويكفى أنها تجتمع داخل الكتاب تحت مظلة إطارٍ شعورى واحد .
وُلد يوسف الشارونى، فى 14 أكتوبر 1924، وتخرّج فى قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة فى 1945، ورأس نادى القصّة بالقاهرة بين عامى 2001 و2006، ثُم أصبح رئيسًا شرفيًا للنادى. كان عضوًا بهيئة تحرير مجلة «المجلة» وعمل كأستاذ غير متفرغ للنقد الأدبى بكلية الإعلام جامعة القاهرة بين عامى 1980 و1982، ثُم مستشار ثقافى بسلطنة عمان من 1983 حتى 1990.حصد العديد من الجوائز؛ التشجيعية فى القصة القصيرة عام 1969، التشجيعية فى النقد الأدبى عام 1979، التقديرية فى الآداب لعام 2001، وجائزة العويس الثقافيّة الإماراتية عام 2007. وتوفى الشارونى 19 فى يناير 2017م . رحم الله كاتبنا الكبير .