الأديب العالمى النوبلى ـ نسبة إلى نوبل ـ نجيب محفوظ، كأنه يعيش بيننا هذه الأيام، يضيئ لنا باستشرافاته عتمة المواقف، وظلاميتها، ونحن نعيش أجواء المد الثورى الضبابية، حيث الخلط الذى لا يخلو فى بعض جوانبه من القصد، والترصد، ما بين اتهامات بالفلولية، وأخرى بالعمالة، وثالثة بالخيانة، حتى لا يكاد يخلو واحد من أبناء الشعب المصرى من آفة من هذه الآفات، كل ذلك ومصر محاطة بمن يتربص بها، إحاطة السوار بالمعصم، أو بالأحرى إحاطة الأكلة بقصعتها، وإذا بنجيب محفوظ فى مقال له نشر يوم 23 يوليو عام 1987 م، بمناسبة ثورة يوليو 1952 م، يأخذ بأيدينا بعيدا عن جفاف التعريفات الأكاديمية المتيبسة ـ على أهميتها فى قاعات الدرس ـ ليطل بنا على نظرة أديب بحجمه وقيمته وقامته على معنى الثورة فيقول: "الثورة أعظم تجربة إنسانية يُمْتـحن بها شعب يريد الحياة"، وهنا يثور فى الذهن تساؤل مشروع حول: لماذا هى امتحان ؟ ولماذا يريد الحياة ؟ ولا يدعك الأديب الفذ فى حيرة من أمرك، ويجيب معك ـ وليس عنك ـ عن تساؤلك، بقوله: " إنها امتحان لروحه وعقله وإرادته، وقدراته على الخلق والإبداع وتحدى الصعاب، والتعامل الحكيم مع النصر والهزيمة، والأمل واليأس .. "، فهل نعى ذلك ـ حقا ـ ونعمل له ؟ . لا أظن ؛ لأنه لا خلق ولا إبداع ولا تحدى ولا حكمة، وإنما مشاحنات وملاسنات وتنابذات لفظية، ومجادلات لا تدل إلا على حالات الاسترخاء النفسى، والترف العقلى، والفراغ الروحى، وفقدان الإرادة الفاعلة . وهذه مسالك شعب لم يشعر، ولم يستشعر عمق التجربة الإنسانية التى مر بها، وأنها امتحان إذا كان يريد لنفسه الحياة، وهنا نأتى إلى السؤال الثانى: لماذا يريد الحياة ؟، يجيبك محفوظ قائلا: " وعلى الشعب الذى يريد الحياة ألا يهدر تجربة ضخمة لا يُستهان بها فى مجرى الزمن أو يتركها تتلاشى فى غمار الأخطاء والعقبات" . فإهدار التجربة أو تركها تتلاشى لا تتأتى إلا من شعب لا يريد الحياة، ثم يذهب محفوظ بحسه الاستشرافى إلى الإجابة عن سؤالين محوريين نجابهما هذه الأيام الأول: هل الثورة كانت من قبيل العبث ؟ . الثانى: وهل كانت الثورة مؤامرة ؟، فقال عن الثورة فى معرض إجابته عن السؤال الأول: "إنها لم توجد عبثا، فالعبث لا يخلق ثورات"، قولاً واحداً جامعاً مانعاً فاصلاً، يرد على تلك الترهات، التى تزعم أن ثورة يناير ليست بثورة . ويستطرد مجيباً عن السؤال الثانى: " ولا نتيجة مؤامرة داخلية أو خارجية، فالمؤامرة قد تَسْتغِل ما يتهيأ لها من فرص وظروف، ولكنها لا تخلق الأسباب الحقيقية التى تجعل من الثورة ثمرة محتومة"، أى أن الأصل فى المؤامرة أنها تستغل الفرص والظروف، ولكنها لا تخلق الثورات، ولا تكن أصلاً فى وجودها، ولعل فى ذلك أبلغ رد على من يسعى ـ تحت زعم المؤامرة ـ إلى تصفية الثورة، وعقاب الشعب عليها، وإن ثبتت المؤامرة . ولا توجد ثورة ـ باعتبارها فعل بشرى ـ منزهة عن الأخطاء، أو خالية من السلبيات، أو متعثرة الإيجابيات، ومن ثم لا يعد وجود هذه الأشياء مدعاة لتصفيتها والخلاص منها، وإنما حافز لمعالجة هذه الأخطاء والسلبيات، واستيعاب الدروس وتصحيح المسار . وفى ذلك يقول محفوظ : " وقد ترتكب ـ أى الثورة ـ أخطاءً فادحة، أو تضل فى سبيلها أحياناً فتتراكم سلبياتها، بل حتى إيجابياتها قد تتردى بسوء التصرف فى العجز والخسران " . ثم يستطرد محفوظ قائلاً : " ولكن شيئاً من ذلك لا يدعو ـ ولا يمكن أن يدعو ـ إلى تصفيتها، ولا يجوز أن تمتد الرغبة فى عقابها إلى عقاب الشعب وتعتيم مستقبله، وإنما يجب أن يحفزنا إلى معالجة السلبيات واستيعاب الدروس وتصحيح المسار، واستنقاذ المكاسب من براثن سوء الحظ والتقدير " . وتلك هى العلاقة الجدلية بين ثورة يناير وثورة يونيه، التى تنفى عن يناير تآمريتها، وتنفى عن يونيه انقلابيتها . وقد أُخِذَ على ثورة يناير غياب القيادة / الرأس، مما أتاح لمختطفيها ـ غير الثوريين بكلام مرشدهم الأول ـ القفز فوق قيادها، والإنحراف بوجهتها، وبدء مشروع الأخونة، بجعل المجتمع جزء من الجماعة بتنظيمها الدولى، إلا أن المجتمع استعصى على البلع، وقام بثورته التصحيحية الثانية، وهى ثورة يونية . ثورة لها قيادة ورأس . إذن فهذه امتداد لتلك، وكلتاهما لم يوجدا عبثاً، لأن العبث لا يخلق الثورات، كما ذهب أستاذنا نجيب محفوظ، وهما تجربة إنسانية عظيمة وعميقة لإمتحان إرادة الشعوب، وقدرتها على الخلق والإبداع وتحدى الصعاب، فما معنى ما يجرى بيننا الآن ؟ . وماذا نحن فاعلون ؟ . فليعترف كل منا بتلك الثورة كوثبة تاريخية تظل رمزاً يشير إلى الرغبة فى التحرر من القهر والظلم، والرغبة فى معايشة العصر فى أنواره ومعجزاته . وقد اختتم محفوظ مقاله بقوله : " ولنؤيد من قلوبنا من يندبهم التاريخ لتصفية الأخطاء، وبعث الإيجابيات، وتجديد الهمم، ورد الاعتبار والحقوق لشعب مصر الخالد " . لقد قرأت المقال ولم يزايلنى شك فى أن كاتبه يعيش بيننا فى هذه الأيام . وقد نسيت أن المقال قد نشر منذ 28 عاماً كاملة، وأن صاحبه قد توفى قبل اندلاع ثورة يناير، فى 30 أغسطس 2006 م، عن عمر يناهز 94 عاما . رحم الله نجيب محفوظ .