وبداية فنجع البقاطرة هذا نسبة إلى آل (بُـقـطر) بضم الباء، هو نجع من نجوع جزيرة الشورانية التى تضم 14 نجعاً فى صعيد مصر، من بينها نجع البقاطرة الذى عرف عنه أنه مثال حى للتفاعل والحركة، والتجمع والتلاقى والبيع والشراء وكسوق للبلدة، فى وقت ما كنا نسميه لبنان قريتنا! نظراً لما يتسم به من حركة وحيوية ومصدر للخبر (والميديا والإعلام) وملتقى الأفكار وتفاعلها وتلاقيها.
وما يجدر قوله كذلك: عن هذا النجع، أن كله أو جله من الأخوة الأقباط، ومع ذلك تجد المئذنة حاضرة بجوار الكنيسة جنباً إلى جنب دليل على التسامح، والعناق الحقيقى الممتزج بالمودة المغلفة بتعامل الناس مع بعضهم البعض، والمشاركة فى الأفراح والملمات فى البيت والحقل والزرع، وحتى المقابر، نعم المقابر، فعندما قرر أهل القرية نقل مقابرهم من حضن الجبل الشرقى، إلى داخل القرية، نظراً لبعد المسافة، وتجشم العناء عند تشييع كل حالة وفاة، ارتأى حكماء القرية ضرورة نقل المقابر، هكذا تصوروا وقرروا، ففى النقل راحة للجميع، ولذلك قرر الأخوة الأقباط بدورهم أن لا يتخلفوا عن الركب حتى من خلال المقابر فقرروا نقل مقابرهم، رغم أنه كان من الممكن أن لا يشاركوا أو يتعللوا بخصوصية ما، والقول أن ما ينطبق على غيرهم لا ينطبق عليهم، لا بل شدوا الرحال واتجهوا مع أقرانهم.
ولأننى ضربت المثل بالموت قبل الحياة، لذلك سوف آتى للجانب الأهم وهو سبل العيش والحياة، وكيف أن نقطة شرطة القرية التى تخدم 14 نجعاً توجد فى نجع البقاطرة، وكذلك مكتب البريد، والمدرسة التى خرجت كل أو جل القيادات والرموز، من حكماء اليوم ومتعلمو القرية ومثقفوها، كذلك توجد الجمعية والصيدلية والأطباء، والمحلات التجارية المتخصصة على تنوعها وتخصصها وحركة البيع والشراء من مواد تموينية ولحوم وحبوب وغلال وصفقات.
أما لماذا كانت أو جاءت فكرتى محدثكم، عن الكتابة فى هذا الجانب بالذات (نجع البقاطرة) رغم أن محدثكم مسلم، المؤكد لطلاوة الفكرة، أى الكتابة عن النجع الذى تحول لحاضن حقيقى لكل الخطى والتيارات، وملتقى للأفكار والتجمع والبيع والشراء، وعن رغبة حقيقية صنعتها وخلقتها التجربة، والمصداقية حتى أجمع الناس وتجمعوا وتقاطروا ذهاباً وجيئة، هكذا وبدون اعتبارات مغايرة وبدون قصد للتمييز والتصنيف كما أسلفت بل لرغبة وحركة حقيقية وتراكم من الحب والتسامح.
قلت لكم أن فى الجزيرة أربعة عشر نجعاً، وقلت أن نجع البقاطرة كله أو جله مسيحيون وألفت انتباهكم أيضاً: أن فى القرية تجمعين آخرين للأخوة الأقباط تحتضنهما نجوع المسلمين، ومعذرة مرة أخرى فلعلكم تلاحظون تكرار اعتذارى للتأكيد أنه لا تصنيف هنا، ولا استضافة من أحد لأحد، ولا أحد يعزف على وتر ما مغاير بل أوتار حب، فعندما يمرض فرد أو شخص ما وتجد من يرشدك ويقول لك: اذهب للدكتور عهدى حكيم، أو اتصل بالدكتور عهدى كى يأتيك، ويأتى الدكتور عهدى الذى نال ثقة وحب الجميع المسلم قبل المسيحى.
أشياء حقيقة ربما لا يوفيها المرء حقها، ولربما يسمينا البعض مثاليون فى جزيرة مغلقة بحكم النهر وحصار الماء لها، والتى لا يربطها بأى من الشاطئين الشرقى أو الغربى سوى المراكب لذلك دائماً ما نصف أنفسنا: أننا جميعاً فى قارب واحد .
نعم تعداد نجوع قرية الشورانية 14 نجعاً ونسبة الأقباط فيهما تمثل 13 إلى واحد تقريبا، ليس ذلك هو المهم أو القصد، بل القصد أن نجع البقاطرة الرائع هذا، كان يسميه كثيرون منذ حقبة الستينيات وما زالوا لبنان جزيرتنا! نعم هكذا أسموه منذ عقود، وقد عرف عن لبنان منذ الستينيات أنه مثال للحراك والتنوع وتعدد الصحف والأفكار، وهكذا قالوا عن نجع البقاطرة، نظراً لوجود صحف يمكن شراؤها واستجلابها، وأول بوسطة وبريد يربط القرية بالعالم قبل النت والهواتف، بل أن أول ضوء ومصباح وعمود كهرباء تم تدشينه فى نجع البقاطرة، بسبب أن أول نجع أدخلت فيه الكهرباء كان هذا النجع من بين 14 نجعاً ومتى؟ حتى لا يقول أحد أنها الواسطة أو عضو ما للبرلمان .
ولأن الكلام (يجيب بعضه) وذكرت حكاية الكهرباء، وكيف أنها دخلت نجع البقاطرة، قبل النجوع الأخرى، وأن السبب فى ذلك لم يكن عضو لمجلس أمة أو ما شابه، لا والله بل لخطة وموازنة الدولة وقتها، ورؤيتها ومسئوليتها، ومظلة المواطنة التى تظلل الجميع، ومن منظور وطنى فحسب، يدشن الاستحقاق وتعطى الأولوية حسب الحاجة وأهمية المكان .
ولأننى تطرقت لمجلس الأمة أو عضو ما وما شابه وأنه لم يكن السبب وقتها، يا للعجب، بل يا لروعة قريتنا التى تعطى صوتها ككتلة موحدة لمرشح مسيحى من الضفة الأخرى والشاطئ الأخر خرج قريتنا، ولم يتزحزح هذا العضو رحمه الله، أو يبرح عضويته فى البرلمان التى توالت سنوات ودورات لم تنقطع إلا بوفاته، ولذلك كانوا يقولون عنه ويصفون قريتنا بالقول فيما يتعلق بالانتخابات: أن من يضمن أصوات الشورانية يضمن الفوز بمقعد الدائرة، ولذلك كنت تجد حماس المسلم قبل المسيحى للتصويت لهذا الرجل الذى رحل، نظراً لأنه كان جادا بدوره فى العطاء والتفانى وخدمة القرية وأهل الدائرة .
أية روعة تلك وأى حب هذا؟.
حقيقة العطاء متواصل ومستمر وباق فى البيوت المتجاورة، والحقول المتجاورة، والمقابر حتى، والخدمات المقدمة للجميع وهذا النجع الذى خلق ليكون مركزاً وسوقاً تجارية ( بالتراكم والتجربة) وأسماء التى يشترك الناس فيها وتسجل فى مكتب الصحة ودفتر المواليد، عاطف، وصبحى، وصدقى، وعادل، وكارم، وكريم، وعيسى، وموسى، وإبراهيم، وعوض وووووو .. نعم العطاء موجود، كثقافة ومأكل، وملبس، وملامح ولهجة واحدة، وتشابه فى الأفراح والعادات والتقاليد .
كما أن العطاء يتواصل من خلال جمعية للتكافل الاجتماعى تم تدشينها بالجهود الذاتية فى القرية، ولم تحدد أو تميز مواطناً دون أخر، ومن خلال رجال اتصفوا بالخلق والتواضع، حتى سيارة نقل الموتى التى تم تدشينها بعيداً فى القاهرة ولكنها تحمل اسم القرية وخصصت لكل سكان القرية، وتم جمع ثمنها من الأيادى البيضاء من الجميع دون تفرقة أو تمييز المسيحى قبل المسلم، والفقير مع الغنى، ولذلك يتمعن المرء ويتأمل حتى فى المسمى والشعار الذى تم تسمية السيارة به (سيارة نقل الموتى) إذ أطلق عليها تسمية وجملة (سيارة تكريم الإنسان) الله .. سيارة تكريم الإنسان، رقى فى المسمى والاختيار .
لذلك كان اختيارى اليوم، وصدقونى لم يكن اختياراً أو شيئا متعمداً ومخططاً له (ككتابة فى ذهنى مسبقا) لا بل لأن الفكرة جاءت وقفزت هكذا فى لحظة ما، لتلح وتفرض وتطرح نفسها، فى أن أصوغها وأسطرها، عن هذا النجع الرائع الذى احتوى ودشن كل هذا الحب بين جنباته.
ختاماً كان الأنبا شنودة الثالث يقول عن مسيحيو مصر: أنهم مسلمون بالمواطنة، ومن يتذكر حرب أكتوبر العاشر من رمضان كمثال، سيدرك ويستعيد تشابك الأيادى، وصيحة اللواء فؤاد عزيز غالى قائد الجيش الثانى الميدانى فى حرب أكتوبر، مع صيحة اللواء الشهيد أحمد حمدى قائد لواء المهندسين مع الخطوات الأولى للعبور والتهليل والتكبير .
لذلك تبقى مثل تلك الصور، كما هى ملحمة نجع البقاطرة فى قريتنا شاهدة على الحب والتلاقى والتجمع والتآزر .