يسرح الإنسان بخياله فى هيام واستيهام معلنا حقه فى تجاوز الواقع أو التعالى عليه أو الهروب من إحباطاته المتكررة.
يُبحر الإنسان فى بحر من الكلمات عبر شاشته الداخلية يعكس كل ما يحتاجه من رغبات متجاوزا كل القيود وبنوع من الحرية الداخلية المنشودة .
ولمّا تتراكم الأحداث عبر التاريخ الفردى تثقل الذاكرة، ومن حيث إنها تفكير مصحوب بإحساس تُحرك فينا أحاسيس شتى بشيء من القبول أو النفور .
وهكذا تستمر الذات فى هذا الماضى ويُنقل بكل تفاصيله لدرجة أننا نصبح عرضة لتشتت الانتباه فى اتجاه الحياة الواقعية وكأنه نوع من التجاهل أو الرفض لها. هنا تبدأ لعبة النسيان المتأصلة فى الوجود الإنسانى بطرق شتى من تجاهل أو هروب أو نكران وربما تبرير وكأنه رفض للواقع الجديد وتثبيت للأنا فى مستوى معين من الذاكرة ورفض الانتقال لمرحلة لاحقة تقترب أكثر من الحاضر متخلصة من الماضى البعيد بشيء من الذهول والسرحان تجسيدا لنوع من الغياب على مستوى الحاضر، عندها يفيض الماضى بكل أحاسيسه و ثناياه بكثير من التمعن .
كثيرا ما يتكلم الإنسان عن الماضى بذاكرة قوية سواء كانت ذكريات حزينة أم سعيدة، ويتلذذ بالحديث عنها وكأنها أساس لكل ما عداه.
يرتبط الوجود الإنسانى بالماضى وكأنه قدر عليه أن يكون كائنا تاريخيا، كائن فى حياته أحداث طفولية وشبابية وغيرها.
ولقد استعصى على الإنسان فهم تقلباته ليبحث فى تاريخه المنسى ربما يبحث فى سر هذا المعنى أو ذاك وهذه الوضعية وهذا التقلب.
استعصى على الإنسان إنبات حاضر جديد من غير جس نبض آلامه وعرض قراءاته بثقافته الفردية وبوعيه السيكوسوسيولوجى كمرجعية خاصة تجعل من الحياة المعاشة أساس كل تفسير.
اعتاد الإنسان اجترار الماضى وفق ما سخرته له طبيعته البشرية، هو اجترار من أجل الفهم بلغة وتجربة الحاضر، فهل نظلم هذا الماضى أم نستبشر به حاضرا مختلفا فى اتجاه الأفضل ؟ هل كان على الإنسان أن يفتعل قطيعة معه بالنسيان، فيجرد ذاته من هذه الطبيعة العقلية ؟
قد يتذكر الإنسان ماضيه مصدر شقائه ليتذكره بنوع من الحنين، أليست الذات تعيش نوعا من السادية والتعذيب لنفسها ؟ ولماذا هى لعبة النسيان للحاضر التى تلعبها الذات بنوع من الإخفاء ؟ أليس الحاضر أحق بالتذكر باعتباره القريب ؟ إنه نسيان للحاضر دون ماضى الذى تجدر فينا بفعل السنين وبفعل التذكر، استعصى على الإنسان نسيانه بينما الحاضر لازال فى طور النقش على صفحات الذكريات .
تترسخ الأحداث بفعل ما تركت فينا من آثار على مستوى الإحساس لتحدث نوعا من البرمجة الفردية وتفسير كل حساسية اتجاه الموضوعات لتتشكل فى شكل مواقف تجد لها تفسيرا فى هوية الشخص الفردية و فى تفرده.
لعبة النسيان هى ما يبرر الوجود ويفتح الصفحات الجديدة لتكتب فيها الأحداث وتستمر معها الحياة.
بين التذكر والنسيان الإنسانى معنى لا نجده إلا عند هذا الكائن الصامت والهادئ فى مظهره لكنه الصاخب والهائج فى جوهره. فأين تكمن النعمة إذن، هل فى التذكر أم النسيان؟ وهل لعبة النسيان يتلهى بها الوجود الإنسانى ليجد فى نفسه نوعا من التصالح مع الذات وضمان الاستمرار؟ هل العلاقة مع الماضى قطيعة فى شكل نسيان أم استمرارية وتدفق وانسياب فى شكل تذكر؟
يتأرجح الوجود الإنسانى فى تقلباته بين كائن ذكى قد يتخذ من الغباء واللامبالاة كوضعية يرتاح فيها من كل وعي، هى وضعية مريحة للذات من كل مقوماتها وثورة فى وجه كل التحديدات لجوهر الإنسان وأساس وجوده .
إنه نوع آخر من التواجد المشترك والتشاركى مع الآخرين، نتشارك ذكرياتنا كما نتشارك نسيانها لنحافظ على استمرارنا وخصوصيتنا كما نراها و نريدها أن تكون ومن تم مشروعية النسيان .
الحاضر معرض للنسيان كلما قرب من الذاكرة. الحاضر يقترب من الواقع المعيش منه من الواقع التأملى والاستحضارى على مستوى الذاكرة، وكأن التأمل فى شكل تذكر بالأحاسيس نوستالجيا لأوضاع مضت.
الذاكرة إذن أساس كل جوهر وكل معنى ولكن لماذا النسيان الذى لا يتوافق مع أصل الطبيعة الإنسانية مع أنه جزء منها؟ فهل هو حقيقة أم لعبة تستعملها الذات الواعية بميكانيزمات لاواعية؟
يبدو أن رفض الذات العاقلة قد يشغل ميكانيزمات تخرج عن نطاق الوعى لتحقيق نوع من التوازن والاستقرار النفسي، قد يكون بذلك النسيان تحايل الذات على الأحداث يجسد نوعا من الرفض
كاستراتيجية مفيدة تلغى كل مقومات الذات وكل ما تباهى به الإنسان مميزا نفسه عن سواه من الكائنات.
أكيد أن لعبة النسيان ستقصد أحداثا أو أشخاصا، وكان على كل عضو فى الإنسان مسؤولا عن هذه العملية أن ينخرط دون عصيان لأن الأمر نتيجة لعملية جد معقدة يصعب عليه فك شفراتها.
تدعو الذات نفسها للنسيان ليستجيب الجسد معلنا استسلامه وضعفه، فالأمر يتعلق بالعمق الوجودى الإنسانى الذى يتجاوز الجسد أو العقل و الوعي...
مهما كانت المسافات تعمل الذات على اختزالها فى لمح البصر بالدعوة للنسيان ولكن عليها أن تثقن قواعد اللعبة حتى تستطيع التحايل على نفسها.
قيل أن الجسد وقدرات العقل على التخزين تثير العجب وتذهل كل عقلية علمية فذة لكن لا تستطيع الانخراط فى فك لغز التواجد الإنسانى لأن بكل بساطة وجوده لا يتلخص فى جسده.هى مفارقة يعرفها الوجود الإنسانى بين المظهر الجسدى والجوهر الباطنى والنسيان يجمع بينها، ولكن باستجابة الجسد للباطن كحقيقة للوجود.
ستظل لعبة النسيان للذات المفكرة تحتاج إلى الكثير من القراءات لتغنى عمق الوجود الإنسانى وتوضح حقيقته وتجعل منه أساس كل التفرد . ومع أن الحقيقة المعقدة قد تكون صادمة ستظل سرا من أسرار جمالية الإنسان، ومصدر لكل ممتع يبحر بنا فى كافة الأبعاد القيمية، السيكولوجية والسوسيولوجية وأيضا الأنطولوجية متفاعلة فيما بينها لتعطى كائنا ممتع الوجود والبحث، ولكنه وجود صادم لكل من يريد اختزاله فى بعد دون آخر، وربما فى ذلك قهر وحيرة لكل من رأى فيه كائنا حيا ينطق فيه الجسد ويحرك سلوكه ويبنى مواقفه وكأنها الحاجة فقط ما يحركه لتجعل منه كائنا صانعا مبتكرا بعيدا عن كل الأبعاد الأخرى كأساس للفرد والتى قد تلغى كل مقومات الذات من قبول ورفض وعقل ووعى...
يبدو أن الذات المفكرة أصيبت بعطب ليظهر النسيان تغيبا لقدراتها وينطلق المستوى اللاواعى بميكانيزماته الخفية، ومن هذا المنظور يعلن عن حالة اعتلال يتخبط فيها الإنسان يحتاج إلى فترة من النقاهة وتتلاهى الذات بلعبة النسيان...
الوجود الإنسانى بنية جد مركبة ومعقدة تتشابك لتوجد فينا هذا الاختلاف بيننا و الجميل بشكل تكميلى لبعضنا البعض، لتجعل لكل منا بصمته التى لن تتكرر ويجب قبولها كذلك بالرغم من لعبة النسيان
التى قد تبدو صادمة فى شخص الذات المفكرة لكنها مثيرة ومذهلة لصورة الإنسان الفريد والمتناغم فى حضوره الوجودى المستفز لكل مدّع للعلم والحتمية فى مجال العلوم الإنسانية كمجال للحيرة لازال يحبوه مخفقا فى الوصول إلى نتائج يقينية.