دار بينى وبين صديق شاعر منذ أيام حديث عن " مقارنة بين اثنين من كبار الفنانين قديما " . أحدهم تسيّد مجاله وتزعّم الجميع وتربّع على قمة الهرم دون منازع رغم أنه كان الأقل موهبة لكن الحظ لازمه فى البداية ثم تكتّل الجميع وراءه لمنعه من السقوط .
بينما انزوى الآخر الأكثر موهبة جانبا تنحى تحت ضغط التهميش من زميله المشهور والهجوم المستمر من حواشيه وحوارييه رغم أنه كان الأفضل فنيا والأحسن موهبة .
لقد قرأت مقولة أن " الفن مرآة المجتمع " ويبدو أن العبارة حقيقية ويبدو أيضا أنها تعكس واقع المجتمع بسخافاته وجموده ، ذلك الجمود الذى يقف عند فنان أو مشهور بعينه ويقبع تحت قدميه أو يرتضى بشخص واحد فى مجاله ويترك الباقين مقتا للتطور وكراهية فى التنوّع ، النفور من الجديد فإن وجد طريقه وشقّه صعودا لأعلى اكتفينا به دون غيره .
الغريب أن أدوات الإعلام وغيرها كانت تنصاع للمشهور وتسمع لأوامره فى تجاهل الموهوب ..
والآن عندما نستمع للاثنين نندهش من غبائنا ، ونسأل أنفسنا مالنا تجاهلنا الثانى ودُرنا فى فلك الأول هكذا ؟! لما قنعنا بالغث من الفن وغيره وتركنا الجيد والأفضل ؟!
لكن أثناء حديثنا وجدنا أن هذه الحالة لم تكن أبدا استثناءً قدر كونها قاعدة عامة تجذّرت ببنية المجتمع كشجرة عملاقة أصلها ثابت وفروعها فى سماء المجتمع ، فى جميع المجالات هناك دائما حالة واحدة تصاحبها الشهرة وتدور حولها الهوام ترتع من السلطة والنفوذ والقدرة على التأثير.
بينما آخرين أكثر موهبة وأقل حظا يكتفى بعضهم بلعب دور السنيّد للمشهور أو ربما يحفظ كرامته وينأى بنفسه بعيدا ويتابع الحياة من على الهامش .
مالنا نقسوا على الموهوب ونعمل على إفشاله وإخراجه من المسار خدمة لمن يتربع على القمة؟!
ألهذا الحد نحن مجتمع يكره المنافسة أو لا ميل لها ؟! لذا لا غرابة أن تكون الموهبة لدينا فرصة نادرة وحالة استثنائية لا تتكرر كثيرا ، فالمناخ لدينا يقتل الإبداع ، الحق أن العبارة صادقة والأدق أننا نصف حالتنا جيدا ثم نكتفى بهذا ..
ثم مالنا نلجأ لأمثلة من الفن ، فإن نظرت بجوارك فى عملك أو غير ذلك ، فلن تجد إلاّ قمة واحدة تتسيّد ولا يُسمح لغيرها بالظهور .
دائما هناك نجم واحد مشهور تتركز عليه الأضواء ، وتحيط به أنصاف المواهب ومفتقديها ، وهناك على الجانب الآخر موهوب أو أكثر ، ساقه حظه العاثر أن يتأخر ظهوره قليلا ليصعد بدلا منه , فهبط للقاع يجتر أحزانه.
لكن.. دون أن نأسف على الموهوب ، فالمؤكد أن حظه لو خدمه قليلا ومكّنه من الظهور مبكرا , لداس على الباقيين من الموجودين ولدفعهم ركلا للقاع كى يتزعّم هو القمة وحيدا ، فالوحدة بالقمة مع الشهرة خير من مجالسة الموهوبين ..
طالما ارتضينا بعرض وحيد فى كل شيء فلا غرابة أن يتطور المجتمع ببطء شديد ، تطور أحادى الاتجاه لا يقوم على منافسة صحية ولا يساعد على خروج المواهب وإطلاق القدرات والطاقات .
لنصبح فى النهاية مجتمعا يتأرجح بين عناصر مشهورة تسد الأفق وتمنع عنّا هواء التنوّع وحرية الاختيار وتفرض علينا مُنتجها الوحيد وجيوش متعطّلة من المواهب التى تموت كمدا أو تفّر لمكان آخر يقدّرها حق قدرها .وهكذا تصدق مقولة " لا كرامة لنبى فى وطنه ".