حينما تتأمّـل فـى ألفاـظ القـــرآن الكريــم وتراكيبه ومعانيه فإنّــك تستشعــر عظمـة هـذا القــرآن المنزّل من الحكيم الحميــد، لقد عشــت مع تلك الآية: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" الإنسان (3) وتأمّلت السياق القرآنى فوجدت سورة الإنسان تبدأ بقوله تعالى:
"هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) فقد بدأت السورة بأسلوب إنشائى طلبى وهو الاستفهام، والاستفهام هنا خرج عن معناه الحقيقى إلى غرض بلاغى ألا وهو التقرير، فالاستفهام هنا تقريري، فالله – تعالى - يقرّر حقيقة يجب أن تكون قائمةً، ألا وهى إقرار الإنسان بوحدانية الله، فجاء الاستفهام لإثارة الانتباه والتشويق لمعرفة ما يأتى من كلام بعده، فالاستفهام هنا بمعنى "قد" والإنسان يشمل جميع بنى آدم، ف" أل" هنا جنسيّة تشمل بنى آدم جميعًا، فلم يكن الإنسان مذكورًا بين بنى جنسه، وإنما كان موجودًا بعلم الله، ثم أوجده من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم أنشأه خلقًا آخر، فجعله سميعًا بصيرًا.
وخصّ الله السمع والبصر؛ لأنهما أنفع حواس الإنسان، ثم نعرّج على الآية الثالثة فنتبين هداية الله – تعالى-، فقد هدى الله الإنسان إلى ما يوصله إلى الطريق المستقيم، أكّد تلك الهداية بـ"إن"، فحينما وعى الإنسان هداية الله كان شاكرًا بصيغة اسم الفاعل، لكنه عندما أبى واستكبر قابل هذه النعمة بالجحود والنكران ( كفورًا) بصيغة المبالغة، فلماذا جاءت " شاكرا" بصيغة اسم الفاعل؟ ولماذا جاءت " كفورًا" بصيغة المبالغة؟ فنعرف أن الإنسان مهما عمل من خير فلن يؤدّى شكر الله، وقد صدق الله – تعالى - :" وقليلٌ من عبادى الشكورُ" سبأ(13) فشكر الله تنتفى عنه المبالغة من غالبية بنى آدم، لقد بيّن الله للإنسان طريق الهداية بإرسال الرسل، فقل شكر الشاكرين؛ لأنه قليل أمام نعم الله التى لاتعدّ ولا تحصى،" وإنْ تعُدّوا نعمةَ اللهِ لا تُحصوها" فالنعمة الواحدة بداخلها كثير من النعم التى لا نستطيع إحصاءها، ولنأخذ مثالًا على ذلك نعمة البصر، فبداخلها نعم كثيرة، وقد نعتبرها على سبيل المجاز المرسل، فأطلق الجزء وأراد الكلّ، فالعلاقة هنا جزئية، وقد قال ابن القيم - رحمه الله - :
"الشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانةً وباللسان: ثناءً واعترافًا، وبالجوارح: طاعةً وانقياداً"، ولكن فى مجال الجحود "كفورًا" فأثبت الله صيغة المبالغة فى الجحود والنكران، وهذا يؤيده قوله تعالى: " إن الإنسان لربه لكنود" فهنا ضرب الخبر إنكارى، فقد جاء بأكثر من مؤكد "إنّ واللام" علاوة على القسم، وانظر إلى متعلق كنود " لربه" فتقديم " لربه" للاهتمام. وتقبيح هذا العمل، و "إمّا" للتفصيل والتعدد، فتتعّد الأحوال مع اتحاد الذات الإنسانية، فهل تسمو نفوسنا لينطبق علينا قول ربنا: "وقليلٌ من عبادى الشكورُ" سبأ(13) لنكون من القليل الشكور؟!