حينما يجول بك الخاطر فى ألفاظ القـــرآن الكريــم وتراكيبه ومعانيه، فإنّــك تستشعــر عظمـة هـذا القــرآن المنزّل من الحكيم الحميــد، لقد تأملت تلك الآية: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا" الأحزاب (18)، فوجدتها تبدأ بأسلوب التوكيد "قد.." فقد يسأل سائل قائلًا: أن "قد" إذا دخلت على الفعل المضارع فإنها تفيد التقليل أو التوقّع، فكيف أفادت التأكيد والتحقق هنا؟ فأقول لك: أن "قد" تختص بالفعل، وإذا دخلت على الفعل الماضى فإنها تفيد التأكيد والتحقق، أما إذا دخلت على المضارع فإنها تفيد التقليل والتوقّع، لكن مع الله فإنها تفيد التأكيد فى المضارع أيضًا، وهذا ما قّرره النحويون.
والفعل المضارع "يعلم" فيه تجدّد واستمرار وحيوية، و"الله" لفظ الجلالة من تألّه الخلق إليه، أى فقرهم وحاجتهم إليه، فعلم الله محيط بهؤلاء المنافقين؛ فهم أن فروا من القتال فلن يفروا من عقاب الله، و"المعوّقين" من العوق وهو المنع أو الصرف، وجاءت "المعوّقين" بالتشديد؛ لتدل على كثرة صرفهم من على شاكلتهم عن الخروج مع رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، ثم جاءت منكم لبيان جنسهم من المنافقين، "والقائلين لإخوانهم" فلسان حالهم التثبيط والصرف عن القتال مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- و"إخوانهم" تدلّنا على أن صفاتهم متطابقة؛ فهم إخوان فى النفاق والصفات الذميمة القبيحة، وكراهيتهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم جاءت "هلّم إلينا" فـ"هلّمّ" فى اللغة اسم فعل أمر بمعنى: أقبل أو تعال، واسم الفعل يأتى بصيغة واحدة فهو يعمل عمل الفعل، ولا يقبل علاماته، يستوى فيه المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث؛ لذلك جاء اسم الفعل بصيغة واحدة؛ ليدلنا على أنهم واحد فى الصفات والأخلاق الذميمة.
وتأتى "إلينا" ليكونوا معًا فى سلك المنافقين، ثمّ بيّن الله- تعالى – أنهم جبناء "وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا" فهم جبناء ترتعد فرائصهم خوفًا من القتال، يقولون أن بيوتنا عورة قاصية غير محصنة يخشون عليها، ولكنهم لا يريدون إلا الفرار؛ فيستنكر الله عليهم بالاستفهام الاستنكارى التوبيخى "قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إن أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا"(17)، فإن كنتم تعتقدون أنكم بفعلكم هذا تخفون عن الرسول فإن رب الرسول أعلم بما فى أنفسكم وينبئ به رسوله؛ فهنا الشدائد تظهر معدن الرجال، وقد صدق الإمام الشافعي:
جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوى من حبيبى.