تتعالى همسات بعض الأصوات فى الشارع الليبى بين الحين والآخر متسائلة عن أسباب قيام الثورة الليبية، وتدعى بأنه لم تكن ليبيا فى حاجة إلى قيام تلك الثورة، وتستند فى ذلك إلى الاستقرار السياسى، وانتشار الأمن، ورخص الأسعار فى عهد القذافى.
وفى هذا السياق توجد مقاربتان لتفسير أسباب قيام الثورة الليبية.
يذهب الفريق الأول إلى تنوع أسباب الثورة الليبية ما بين أسباب اقتصادية؛ إذ أدت سياسة نظام القذافى إلى حدوث تفاوت كبير فى عملية توزيع الثروة، وخاصة العائدات النفطية التى استأثرت بها دائرة ضيقة تلتف حول القذافى وعائلته، إضافة إلى ما بدده من ثروة على شراء الأسلحة، وتكديس الأرصدة فى بنوك الغرب، ما أدى إلى انتشار الفساد والبطالة. وأسباب اجتماعية؛ من خلال حالة التغير الديموغرافى التى كانت تعيشها ليبيا قبيل الثورة، متمثلة بزيادة شريحة الشباب (أقل من 25 سنة)، والتى شكلت 52% من مجموع السكان. حيث كانت هذه الفئة ترفض حالة التناقض القائمة بين الشعارات والمُثُل التى تربّو عليها، والتى تؤكد قيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية وملكية الشعب، وبين واقع يناقض ذلك تماماً، الأمر الذى خلق لديهم حالة من عدم الرضا تجاه تلك السياسات. وأسباب سياسية؛ حيث كان القذافى يعتبر نفسه أميناً للوحدة العربية بعد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الأمر الذى كان له انعكاسات واضحة على التوجهات الخارجية والداخلية للسياسة الليبية، أدت بدورها إلى سلسلة من المغامرات التى خاضها نظام القذافى على الساحتين الإقليمية (العربية والأفريقية) والدولية. وقد أدت تقلبات السياسة الخارجية الليبية إلى ترسيخ الشعور بالمرارة لدى العديد من الليبيين؛ بسبب ما ترتب عليها من تبديد ثروات بلادهم فى قضايا لا مصلحة لهم بها، فى الوقت الذى يعانى السواد الأعظم منهم حالة الفقر والحرمان، والتردى فى قطاعات المجتمع التعليمية والصحية، ومشاريع البنى التحتية رغم كبر حجم عائدات الدولة النفطية.
وفى المجال التربوى الاجتماعى، فقد أسس استمرار النظام الليبى السابق لحالة من التسيّب والإهمال، وعدم الشعور بالمسئولية من قِبل العاملين فى أجهزة الدولة؛ إذ كان التقرّب من شخص القذافى وحاشيته والإخلاص لهم هو ما دأب على فعله الكثير من العاملين فى أجهزة الدولة وقتذاك، ما ترك الساحة مفتوحة للوصوليين والمنتفعين.
أيضاً فقد كان التركيز على مفردات قيمية أساسية فى خطابات القذافى وكتابه الأخضر، كالحرية والعدالة، وحكم الشعب وغيرها من المفردات دون العمل بها، ما أفقدها معانيها الحقيقية، وأربك العقل الإدراكى للمتلقين لها.
ويذهب الفريق الآخر إلى أن أسباب الثورة الليبية إنما تعود فى مجملها إلى توجهات وأسباب غربية، وأن الأسباب السابقة ما هى إلا أسباب ظاهرية اخترعها الغرب للسيطرة على العقلية الليبية، ويدللون على ذلك بأن تدخل حلف الناتو فى الأسابيع الأولى من عمر تلك الثورة، كان بغرض تحقيق مصالح غربية بحتة، من بينها القضاء على نظام القذافى وما يشكله من تهديد للنظام الغربى عبر فتحه لموضوع الهجرة غير الشرعية للأفارقة، ناهيك عن الأسباب الاقتصادية، والتى تتمثل أبرزها فى الاستحواذ على النفط الليبي، وإغراق الشعب الليبى فى الديون من خلال تجارة السلاح، وإدخال البلاد فى حالة من الفوضى والتناحر، وهو ما نجح فيه الغرب حتى الآن. والواقع الليبى خير شاهد على ذلك، فها هو الانفلات الأمني، وانتشار السلاح، والإخفاء القسرى (الاختطاف)، واختفاء السيولة النقدية من المصارف، والارتفاع المخيف فى أسعار السلع والخدمات، والانهيار الحاد فى سعر العملة الليبية مقابل الدولار.. وغيرها الكثير.
ومهما كانت الأسباب والدوافع وراء قيام تلك الثورة، فما يعنينا هنا هو الانتباه جيداً إلى أن هدف الثورات عموماً كان ولا يزال الحرية. لذلك فإنّ الثورة هى فى الحقيقة هدمٌ لنظام قائم وبناء نظام جديد يُحقّق حرية المواطنين، عبر بناء نظام يقوم على المساواة أمام القانون، وإفساح المجال لجميع المواطنين للمشاركة فى كافة المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على قدم المساواة، وعلى أساس تكافؤ الفرص، ودون أدنى تمييز. وذلك يعنى أن الدولة المدنية هى هدف الثورة ـ وهى ليست هدفاً بحد ذاته، بقدر ما هى هدف إجرائي، أى هدف وسيلى لتحقيق هدف غائي، يتمثل فى المساواة والحرية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحرية الشخصية لا تعنى أن الحق مطلق لا ترد عليه قيود؛ فالإنسان لم يعرف الحرية المطلقة إلا بعد أن كان يعيش بصفة فردية. وعليه، ما دام الإنسان يعيش فى الوقت الحاضر فى وسط الجماعة، فعليه واجب الالتزام فى تصرفاته وأفعاله بالأصول والقواعد التى تضعها هذه الجماعة ولا يعتدى على حقوق غيره. وفى هذا السياق يرى الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر أننا إذ نريد أن نجعل حريتنا هدفاً نسعى إليه لا يسعنا إلا نعتبر حرية الآخرين هدفاً هو أيضا نسعى إليه.
ومنتهى القول: لقد تعددت الأسباب والمبررات التى أدت إلى قيام ثورة 17 فبراير الليبية، وقد استغل الغرب التفتت الداخلى الليبى لتحقيق مصالحه وأهدافه، وما على الشعب الليبى الشقيق إلا الانتباه جيداً لذلك، وترك السلاح والنعرات الجهوية جانباً، والالتفاف صفاً واحداً حول مصلحة الدولة الليبية، للنهوض بها بين مصاف دول العالم، وتحقيق الرخاء والأمان لذلك الشعب المقهور..