اعتاد الناس رؤيته جالسا على جانب الطريق، يأكل مما يقدمه المارة إليه، لا يسأل أحداً مالاً أو طعاماً إلا من أولئك الذين يذهبون إليه أو يتحدثون معه، بعضهم يذهب إليه عطفاً وإشفاقاً، وكثير منهم يذهبون إليه على سبيل التندر والضحك من أسلوبه فى نطق الكلمات، فقد كانت تبدو عليه علامات الجنون، يتكلم مع نفسه وقتما يشاء، يضحك دونما سبب، وقلما يرى باكياً، وبرغم ذلك كان يتمتع بصحة جسدية لا تخفى عن العيان، ولولا ما فى عقله من خبل، وما فى تصرفاته من عشوائية لاستخدمه أحد التجار معه فى تجارته، اقتربت منه ذات يوم، ومددت إليه قطعة معدنية من النقود، فرفض بشدة وهو يتمتم: أنا جعان.. وتمتم ببعض كلمات لم أتبينها أو أفهمها. اشتريت له طعاماً من مطعم قريب وقدمته إليه، ورغم أنى تركته لدقائق معدودة لأشترى له الطعام إلا أنه رمقنى بنظرات تائهة كأنه يرانى لأول مرة، وما زال يتمتم بكلماته غير المفهومة، غادرت المكان ولم أفكر به مرة أخرى؛ غير أنه منذ أيام استيقظ أهل المنطقة ليشاهدوه جالسا بجوار حائط بعيد بدون حركة، حسبوه نائماً، لكن دفعهم الفضول للذهاب إليه، تقدم إليه أحدهم ونظر إليه وقال مندهشاً:
إيه ده! يا ساتر يا رب! دا ميت وكمان فيه دم على هدومه .
وقد اعتقدوا أنه قد دهسته سيارة تسير بسرعة جنونية لسائق متهور وتركه بجوار الحائط غارقا فى دمائه، حوقل الحاضرون وبعضهم ألقى باللائمة من كان سببا فى حدوث ذلك، لكنهم عندما تقدموا إليه ووصلوا عنده أصابهم الهلع، فقد رأوه وقد أجريت له عمليات جراحية وأخذوا عينيه، وقد سُرقت بعض أعضائه، وألقوه بجوار حائط.
قال أحد الحاضرين: تجارة الأعضاء بقيت أكسب من تجارة الآثار والمخدرات، وعلشان كده خطف الأطفال شغال على ودنه، حرقوا قلوب الناس الله يحرقهم فى نار جهنم، ربنا يسترها على أولادنا، ناس بيتاجروا بالموت، ربنا ينتقم منهم.
زادت الهمهمة كثيرا وقد وفد الناس وازدحم المكان قليلا، وبينما هم كذلك وإذا بأحدهم ينادى بصوت عالٍ أجش: ياجماعة لازم حد يبلغ البوليس، وهناك فى القسم ييجوا يتصرفوا.
وعندئذٍ انسحب كثير ممن كانوا متواجدين، وبقى بعضهم مختلفين فيما يجب عليهم أن يفعلوه، ومازالت دهشة ترتسم على وجوهم، يصاحبها حزن دفين، وكلام صامت يرتعش على الشفاه .