جميع علماء النفس استقروا على أن النشأة لها علاقة وطيدة بمصير الإنسان ومسيرته ، وعلى الرغم من أن هذه قد تكون القاعدة ، إلا أنه أحيانًا ما يُخالف الإنسان نشأته؛ أي لا يجعل مسيرته نتيجة مترتبة على نشأته، ولكن أيًا ما كانت الاستثناءات، فعلينا أن نعترف بأن القاعدة سليمة ، فالإنسان يُوجد به ربط غير عادي بين تنشئته ومسيرته ومصيره ، فمن تربى على الجُبن لن يُصبح بطلا، ومن نشأ على الأمانة، لن يعرف الخيانة، ومن اعتاد الصدق لن يستطيع الكذب ، فهذه أمور تُعتبر من المسلَّمَات نسبيًا، إلا في حالة حدوث حوادث خارقة للطبيعة لتغير هذا المنطق .
وهذا يُذكرني بموقف حدث لصلاح الدين الأيوبي في طفولته ، حيث رآه والده يلعب مع الأطفال الصغار في الطريق، فأخذه من بين الأطفال ورفعه بيديه عاليًا، وقال له: " أنا لم أتزوج أمك التي أنجبتك لكي تلعب مع الصبية هنا في الطريق، ولكن لكي تُحرر المسجد الأقصى " ، ثم أنزله من بين يديه ، فوقع على الأرض، فنظر إليه والده، ولاحظ أنه يتألم، فقال والده: "أأوجعتك السقطة؟" فقال صلاح الدين : " أجل ، آلمتني" ، فقال له والده : "لماذا لم تصرخ لتعبر عن ألمك؟" ، فرد صلاح الدين : " ما كان لمحرر المسجد الأقصى أن يصرخ" .
وبالفعل ، تنشئة هذا الصبي جعلت منه بطلا شجاعًا في يوم من الأيام، وفارسا مغوارا، وأظن أننا لو أردنا أن نعرف تاريخ أي إنسان أو تنشئته، فلن نحتاج إلى أن نعود إلى الخلف والبحث عن حياته، فيكفي أن ننظر إلى تصرفاته وأفكاره، ومبادئه ، ومدى صدقه وشجاعته ، فقديمًا قالوا: "الطبع يغلب التطبع"، وتاريخ الإنسان سيفرض عليه شكل تصرفاته، مهما حاول أن يتجمل.