فى ذكرى الثالث والعشرين من يوليو ذكرى ثورة يوليو مازال الناس المثقفين منهم والبسطاء يختلفون فى مفهوم الثورة، بين التجريم والثناء. وكنت أظن أن الثورة والانقلابات والحروب والمناورات هى مفاهيم راسخة فى الذهن المصرى والبشرى عموما فهى كلمات لها تعريفات قد يكون لها مرادف، ولكن التعريف هو الذى يظهر معناها الحقيقى، بل يوحده عند جميع الأفراد ويلقى توحيدَا ذهنيًا من الجميع فلا يختلف الناس على المفهوم والمسمى، ولكن قد يختلفون فى وجهة النظر وتلك سمة طبيعية ففى اختلاف وجهات النظر نتكامل.. ولكن أن نختلف فى تعريف الكلمة أو مفهومها يكون مغلوطا، فهذا هو اضطراب الوعى الإدراكى وتذبذب المفاهيم والبلبلة الفكرية .
إذا ما هو التعريف الحقيقى للثورة؟ من الممكن أن نشبه الثورة بالجنين الذى ينمو بقدرة الخالق فى رحم الأم وهو إبداع خًلقى نراه كل لحظة ومن هذا التشبيه نستطيع أن نرى التطور الزمنى الطبيعى لنمو الجنين الذى يبدأ بخلية واحدة ثم اثنان ثم أربعة ثم يتشكل الملامح ليكتمل ويصير مولودا
هكذا الحال بالنسبة للثورات، فالثورات لا تكون وليدة اللحظة، فأى حدث وليد اللحظة هو حدث عارض لا يمت للثورة بأى صلة ولكن الثورة الحقيقة حتى لا يختلط علينا الأمر بعد كل ذلك فنختلف فى المفهوم هى الثورة التى بها تطور أحداث زمنية مترتبة ومتناسقة واحدة تلو الأخرى والتطور الزمنى لها يكون مثل تطور الجنين، فيبدأ بالاستياء الشعبى لطبقة معينة من جور أو ظلم نظام ما فى أى مكان أو زمان .
وكما يُخلق الجنين فى رحم الأم هكذا تولد أول شرارة لذلك الاستياء فى عقول ونفوس الشعب أو على الأقل شريحة منه كبداية الشرارة، فنفوس الشعب هو الرحم الطبيعى لخلق جنين الثورة، لأن الشعبية وأفراد الشعب هما اللذان يعطيان المباركة والطبيعية لأى ثورة، فلا يمكن أن ينمو الجنين فى أى مكان غير رحم الأم وإن حدث فيُعد فى لغة الطب حمل فى غير مكانه الطبيعى ولا يكتمل وينفق فى أول شهر!
وعندما يزداد الاستياء فى نفوس الشعب بمرور ردحًا من الزمان حتى يصل إلى المستوى اللازم إلى الحراك الشعبى، وهى مرحلة (طفح الكيل) بالشعب على نظام ما، وهنا يجمع كل طوائف الشعب تحت راية إلزامية تلٌزم كل الطوائف والشرائح المختلفة التى تجمعت تحت إلزامية ذلك الحراك بالتحرك وهنا تتشكل ملامح الثورة وتلزم الجميع باتخاذ إجراء والتجمهر السلمى، والسلمى هنا ليس تهذبًا متعمدًا من ذلك الشعب الذى يحمل فى أحشائه الثورة، ولكن لأن التجمع الواحد تحت راية رفض النفس البشرية واستيائها من الظلم والجور والفساد لا يمكن أن يحمل فى طياته أى عنف بل على العكس يكون لاإراديا مصحوبًا بالطهر والتهذب وسمو الهدف! على مثال أفراد قرروا النضال من أجل حقوق عن طريق النضال اللاعنفى. لذا إذا وجد العنف فى أى تجمهر جرد ذلك التجمهر من كلمة ثورة، لأن الثورة لا تتسم بأى نوع من أنواع العنف بل تزداد بها أجواء الطهر وسمو الضمير الانسانى .
وهذه هى قمة الأحداث واكتمال جنين الثورة فيشعر الجمع المتجمهر من أجل مطالب سمو الهدف الذى جمعهم جميعًا على قلب رجل واحد فتقوى الروابط الانسانية وتقوى موقفهم، وهنا لابد أن ينتصر المطلب الشعبى وان طالت الام المخاض والخروج من عنق الزجاجة وإن طالت المعاناة، ولكن سيولد وتنتصر الثورة التى بدأت فى مكانها الصحيح.
ولكن كثيرا ما تنجح ثورات شعبية تحظى بمباركة الشعب والأٌناس التى قاموا بها، ولكن هل نترك مولودًا جديدًا بنعومة أظافره دون عناية جيدة او حرص؟ فما أسهل أن يختطف ذلك الرضيع من حضن الأم أن لم تحرسه عين ساهرة تحميه وتكمل ذلك التأيد الشعبى ..
اذا فمن الواضح أن الثورة الطبيعية الحقيقية الشعبية هى التى تبدأ من الأسفل من الشعوب ذاتها من فرد تجمع على قلب فرد اخر فشريحة فكل الطوائف باجتماع سمو الهدف.. لذا نستنتج أن أفراد الشعب ذاته هم الوقود للحراك الأولى لنبتة الثورة، ولكن ما اذا كان الحراك كما رأينا فى بلدان كثيرة مجاورة من الأعلى؟ من مسئولين فى السلطة على جبهة معادية لأهوائهم فى نفس السلطة؟
ثم اذا انتصروا يطلبون التأييد الشعبى والمباركة الشعبية؟ أتكون تلك ثورة؟ من المستحيل
لان هنا يكون الحراك الأولى مسئولين فى طبقة عليا ربما يكون المحرك الأولى ليس ضمائرهم أو استيائهم، ولكن اهواء شخصية سلطوية، ثم لكى لا يجرمها التاريخ يأخذون من الشعب التأييد الجبرى لتطهير ذلك الانقلاب وتحويله إلى ثورة شعبيةز
آخر ثورات مصر الجميلة دائمًا كانت ثورة الثلاثين من يونيو وهى فى رأيى كان بالأدعى أن نسميها ثورة التصحيح، ولكن مازال البعض الذى لا يفهم التطور الطبيعى للثورة يسخرون منها على أنها ليست ثورة..
ولكن نعود لنقرأ التحليل والتكوين البنائى للثورة الطبيعية، التجمهر حدث أولًا بعد ما شعر الشعب باستياء من استغلال ثرواته وعدم ولاء مسئوليه له وخيانة الوطنية وبعد ذلك حظى بالتأييد السلطوى الذى حفظ مولود الثورة وليس العكس، أى لم يكن هناك استياء سلطوى طلب تأييد شعبى فالترتيب الزمنى هو الذى منه نستوضح الكثير من الأمور!
ولكى لا نظل فى التلعثم المفهومى والفكرى دعونا نقرأ التاريخ المحايد الامين بالترتيب الزمنى ونعطى كل ثورة حقها.