قد تغير أمة هويتها مرة أو اثنان.. لكن أن تظل هائمة باحثة عن هوية هذا هو الفخ، مع فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية عام 1453 وجد سكان آسيا الصغرى أنفسهم أمام هوية جديدة تنتظرهم بل ستظل محور خلاف وصدام دائم مع جيرانهم وأبناء عمومتهم فى باقى بقاع أوروبا غرباً وشمالاً، ذلك الصدام الذى سيخلف حروباً ضارية وضحايا لا تعد ولا تحصى فيما بعد خلال حروب دامت أكثر من نصف ألفية.
كما وصفها المفكر الأمريكى صمويل هنتجتون فى مؤلفه صدام الحضارات.. أمة ممزقة الهوية لا تدرى أى تصنيف يناسبها، هل هى شرقية أم غربية، إسلامية أم مسيحية، آسيوية أم أوروبية، بل ذهب هنتجتون لأبعد من ذلك ليقارن تركيا بدولة مجاورة لها وهى روسيا التى تمتد شرقاً وغرباً لتقبع فى شمال قارتى آسيا وأوروبا مجتمعين وتحتضن إثنيات وقبائل بلا جذور سلافية.
أسواق واستثمارات وفرص عمل مدفوعة الأجر باليورو ومطارات مفتوحة بلا فيزا تشنجن... هذه هى أعظم طموحات الأتراك الذين تعج بهم شوارع برلين، فعلى الرغم من أنه ليس نادياً ثقافياً يضم المسيحيين ذو البشرة البيضاء والشعر الأصفر، إلا أن الاتحاد الأوروبى يملك رصيداً هائلاً من عداء ورفض الأتراك ذى الإرث الإسلامى الثقيل المناوئ لمصالح القوى الغربية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة رغم ضمها لحلف الناتو عام 1952 لحصار المد الشيوعى جنوباً وتأمين أوروبا ضد أى تهديد قادم من بوابته الشرقية، فهى فى النهاية مصالح استراتيجية مؤقتة يحترف حياكتها الغرب.
دبابات ومدرعات تغادر طائرات حربية تركية هبطت فى قطر منذ أيام قليلة ماضية.. مشهد درامى احتل صدارة الصحف والقنوات التليفزيونية ويصنف (تركيا) أخيراً بالمنطقة العربية وليس بالاتحاد الأوروبى بل ويعكس الصورة الثابتة عنها لدى صناع القرار فى الشطر الغربى من العالم سواء فى أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من مساندة برلين لطموحات أنقرة، إلا أن تلك المساندة تحمل فى طياتها مصالح أخرى واختلاف فى نظرة باقى دول الترويكا "بريطانيا وفرنسا" لانضمام تركيا أو بمعنى أدق (توسيع الاتحاد الأوروبى شرقاً).
يعى الألمان جيداً أن بلدهم صناعى من الطراز الفاخر يسعى لفتح أسواق شرقاً لتصدير المنتجات الصناعية واستيراد المحاصيل الزراعية، مما يجعلها فى حاجة لضم دول جديدة كتركيا ومقدونيا ومولدوفا وصربيا، أما فرنسا وبريطانيا لديهم انتاج زراعى كبير ويخشوا منافسة المحاصيل القادمة من اقتصاديات شرق أوروبا الزراعية بالأساس، لذا يرفضوا التوسع شرقاً.
لكن لا يمكن الاستناد لتلك الحجة فقط فى رفض ضم الأتراك للاتحاد، والجدير بالذكر هنا... أحياء الهوية الإسلامية لتركيا على يد النظام الحاكم الذى سيطر على البلاد منذ وصول أردوغان للسلطة عام 2003 ومتاخمة تركيا مباشرة للدول العربية الأكثر اشتعالاً بالحروب يمثلان إحياء للكابوس العثمانى فى أذهان الأوروبيون لكن فى ثوب جديد مع حلفاء جدد، فلم تعد إيران وإسرائيل وحدهم فى سباق الهيمنة على المنطقة العربية.
منذ وصوله للسلطة كرئيس للوزراء، حرص أردوغان على تنفيذ مشروع إسلامى محدد الأهداف والآليات يقضى بتوطيد الهوية الإسلامية لتركيا، أراه تلميذاً وليس أستاذاً فى المشروع الإسلامى وأصنفه دائماً فى (جيل التنفيذ) لهذا المشروع ذى الأذرع العابرة للحدود مثل بن لادن والبغدادى والظواهرى ذلك الجيل الذى سبقه (جيل التفكير) مثل سيد قطب والشيخ عمر عبد الرحمن الذين أرسو القواعد الفلسفية والفكرية للجهادية الإسلامية حالمون بإحياء الخلافة الاسلامية.
ولا يمكن نسيان تعهد تركيا منذ تقدمها بملف عضوية الاتحاد الأوروبى عام 1987 بإجراء إصلاحات دستورية وتشريعية واقتصادية جذرية تمهد الطريق أمام الانضمام، إلا أن نجاح ذلك بات شبه مستحيلاً مع وصول الإسلاميين للسلطة فى أنقرة، هو صدع هائل بين الأتراك والأوروبيين ولا يتعلق فقط بترسيبات الحروب العثمانية الغربية التى دامت لقرون وإنما يمتد لما أبعد من ذلك وهو (الهوية).
مع كل انتصار يحققه حزب العدالة والتنمية بتركيا كتمرير استفتاء التعديل الدستورى بأبريل العام الجارى لتغيير نظام الحكم من برلمانى إلى رئاسى، تزيد صورة تركيا الأوروبية أكثر كذباً فى صفة (أوروبية).. هى إسلامية أكثر فى توجهاتها ومصالحها وتحالفاتها الجيوسياسية بل وحتى فى شكل علمها الذى يحمل الهلال الذى طالما ارتبط بالهوية الإسلامية.
وأخيراً وليس أخراً.. يتشارك الأتراك والأوروبيين فجوة شاسعة بدرجة كافية لتبقى عضوية الأتراك بالاتحاد الأوروبى حلماً فحسب طالما احتفظ الشعب التركى بإدراكه لهويته التى روج لها قادة المشروع الإسلامى والتى تكللت بوصول أردوغان للسلطة، فأحلام الفتى الطائش استبدلت الحلم الاسلامى بالحلم الأوروبى، بل أراهما الاثنان أحلاماً لن تتحقق.
وبعد مائة عام تقريباً.. تذهب مع الريح آمال كمال أتاتورك فى استنساخ دولة تركية أوروبية فى كل خطوة يخطوها الفتى الطائش نحو مشاكل المنطقة العربية لأن أتاتورك لم يكن يدرك أن تلك الآمال لا يساندها شعب يتشاركه نفس الرؤية بعيدة المدى التى طالما اعتبرت القوة الغربية الأقوى والأكثر هيمنة على النظام الدولى.