قد نتشبث دائما بكون الإنسان كائنا رامزا بامتياز، كائن يستطيع تجاوز العالم المادى بالحديث عنه فى غيابه وباستحضاره للصورة الذهنية على مستوى الخيال مع صورة لفظية على مستوى الجهاز الصوتى أو الحركى، لتمتزج الصورتين فتعكس واقعا معيشيا.
قد يكتفى الإنسان بعالمه الخاص دون الإشارة للعالم الواقعى أو الانتماء إليه على المستوى الفكرى، معبرا عن كينونته وعالمه الانعزالى فى نوع من الحنين والإنصات لكل ما يروج داخله.
اللغة الداخلية هى ما يعكس حقيقة الإنسان بشكل مكشوف، فتكون أساس علاقته مع نفسه ومع غيره لتخرج للوجود وتعبر عن نفسها فى شكل مواقف وأساليب حياتية.
اللغة الداخلية هى ذلك الظلام الدامس الذى يتحرك فى خفاء ليشكل صورة، صانعا أشكالا وتصورات تكون مصدر مخاوفه أو أشباحا تقلق وجوده وتحرمه من كل هدوء.
إنها لغتى مع نفسى الحاملة لفكرتى عنها، لغتى ما يجعلنى أرى الصورة الداخلية الجميلة وأستشعر كل الأحاسيس الإيجابية وانطلق فى اتجاه الوجود المتميز أو أرى الوجود أو عدمه أمر سيان، فأستشعر الكسل والسلبية فى كل المواقف الحياتية.
ولكن هذا المد والجزر الذى تعيشه الذات هو ما يقلب مزاجها ويجعلها تتخبط فى تناقضات وحالات مزاجية زئبقية.
إنها لغتى ما يكشف حقيقتى عن نفسى لكننى قد أستعملها لإخفاء حقيقة عدم الرضا عنها كواقع ميؤوس منه.
قيل ويقال إن اللغة وسيلة للتواصل والتعبير عما يروج بداخل الذات وتبدو فى شكلها الطفولى حين نعلَّم أبناءنا اللغة ونلقنهم أسرارها، غير أنها حاملة لحالاتنا السيكولوجية وكل الشحنات العاطفية اتجاه بعض الأحداث دون غيرها، أو بعض الأشخاص دون غيرهم ولربما بعض المفاهيم دون غيرها.
لكن ينتقل الوجود الإنسانى دائما من وجود بسيط إلى وجود أعقد كلما تقدم فى السن و كلما كبر، وكأنه قدر على الذات أن تتدرج فى امتحاناتها متنقلة من مستوى لآخر لتظهر تحدياتها أمام قدراتها.
فى قمة السعادة كان الطفل يتباهى بتمكنه من لغة من يحيط به ويستعملها للتعبير عن حاجته، بعدها يكتشف أنه كان عليه ألا يقول كل شيء على اعتبار أن هناك قيم ومبادئ وموانع اجتماعية خارجية عليه الانضباط بها، وأن يمتلك الذكاء اللغوى الاجتماعى فيختار متى يتكلم ومع من؟ وكيف؟
سيعلم أن الأحداث تأخذ دلالتها فى سياقها العام وأن الكلام ليس بالضرورة يفهم كما يقال، وأن هناك قراءات وتأويلات قد تحمله فوق طاقته.
كبر الطفل فينا وتعلم أن اللغة ليست فقط للكشف بل هى أيضا وسيلة للإخفاء، وأن عليه أن يحبك الكلام ويتعلم ألوان الكذب من أجل المراوغة ليتملص من المسئولية وتبعاتها...
تعلم أن يتكلم كثيرا ولا يقول إلا قليلا، تعلم أن يخاصم الفكر مع اللغة لتصبح الثرثرة والكلام الفارغ من شيمه كوضع مقبول ومريح...
الحقائق مؤلمة دائما لأصحابها، وإن كان فى جوفها عسل، غير أن حديثنا عنها بشكل مختلف يجعلها أقل ألما لتقينا من الشجار والخصام والهدم للعلاقات الاجتماعية التى يجب أن تبنى بشكل سليم بعيدا عن أية مشاحنات لن نجنى من ورائها إلا الغضب والتوتر المميت.
فكم من إنسان دمرته لغة الآخر، وكم من علاقات إنسانية إيجابية انتهت بسوء استعمالنا وانتقائنا لألفاظنا، وكأنها هى ما يحدد هذه العلاقات.
يجلس الإنسان بعد كلمة جارحة توقظ كل الأحاسيس المدمرة لتستدعى كل المواقف السلبية ويربطها ببعضها بنفس القلم المتألم فتقع الذات فى ظلم لنفسها ولغيرها بعدما تركت أثارها على شكل ندب على الدماغ، إنها الجروح التى لن تشفى وسيبقى الزمن يضمد جراحها إلى حين...
فهل لغة الإخفاء فى العلاقات الإنسانية أمر ضروري؟ أم أن لغة الكشف والوضوح ما يجب أن يسرى فى كل العلاقات الإنسانية إيمانا منا بأن التفاهم مع الكل أمر مستحيل؟
كل ذات تجر معها حمولتها ومرجعيتها وظروفها ونظرتها لهذه الظروف وتحليلها لها، فتشكل موقفا من وضع معين لتبدى استعدادها لمواقف حادة تجر معها الكثير من الآلام المنسية فى شكل أحاسيس سلبية.
هكذا قد يبدو الهذيان اللغوى كلاما فارغا من كل معنى مثلما يبدو الصمت خال من كل فكر. لقد قيل إن اللغة لباس للفكر وتعبير عنه وقيل أنهما وجهان لعملة واحدة وأن الصمت المزعوم ضجيج من الكلمات وأنه لا يمكن الفصل بينهما بقدر ما هناك علاقة تماهي...
لكن الشاهد لدينا أن اللغة حاملة للفكر الذى يولد بدوره أحاسيس ومشاعر تترجم فى شكل مواقف استحسان أو استهجان لموقف معين. أفلا يمكن إذن الكلام عن لغة المشاعر التى تجعل العقل العاطفى ينطلق فتتدفق الطاقة بلا حساب ليفقد الإنسان كل توازنه بعدها، بينما كان على العقل التحليلى أن يأخذ بزمام الأمور، وأن يرى الأحداث بالأخذ والرد وبالرأى والرأى المضاد وأن يتناولها بالكثير من التريث والاستباقات للأوضاع.
كان على العقل النقدى أن ينطلق من النقد الذاتى البناء قبل النقد الخارجى، ليدخل الوجود حالة من التأمل الذاتى الإيجابى، وكان على الحياة أن تفرض نوعا من التصالح معها بعد التصالح مع الآخر من خلال التصالح مع الذات. إنها العلاقة الثلاثية إذن بين حب الذات وحب الآخر وحب الحياة والإقبال عليها حيث يستحيل الفصل بين أحدهما.
نصل إذن إلى أن صوتنا الداخلى هو ما ينير لنا الطريق ويمنطق لنا الأحداث ويجعلنا نراها لا كما هى ولكن بإسقاطات داخلية، بل إن الواقع مكشوف ولا يحتاج لمن يوضح لنا اللون الأصفر أو الأخضر لأنها مألوفة لدينا،غير أن هذا لا يمنع أن يكون لى نظرة ممتعة للون دون سواه والأمر مختلف عند الآخر عندها سأتعلم الإيمان بالاختلاف المطلوب والذى فيه نوع من التكامل والانفتاح والإيمان بنسبية الفكر وذاتية التفكير.
فلكل منا نبرة صوته الخاصة تختلف عن نبرة صوت الآخر. فلماذا نريد أن تكون لدينا نفس طريقة التفكير؟ كل منا له أهدافه وأولوياته وليس بالضرورة نفسها عند الآخر وسنلتقى جميعا حين نُمنطق الفعل فى اتجاه الخير الأعم.
لهذا علينا أن نتعلم كيف نفكر بشكل أهدأ ونتدرب على ذلك من أجل تحليل الأحداث وليس التشبع بها. تعلمنا أن الفكر سلاح الإنسان فى حالة الأزمات من أجل الخروج من المآزق، تعلمنا أن الجلوس على مائدة الحوار العقلى هو ما يحرر الإنسان من الشحنات العاطفية وإن صعب ذلك عند البعض فإن ضرورته تفرض علينا المحاولة. حياتنا مليئة بالمآسى وتاريخها يؤكد أن الألم ولغة المشاعر تقل حدتها مع مر الأيام والسنين لتدخل فى لغة الذكريات الجميلة الحاملة لشحناتها العاطفية المعقلنة، فيعجبنا الحديث عنها بنوع من الافتخار باعتبارها انجازا ذاتيا يعطى معنى للوجود الذى يفترض التأمل وإلا سيكون نوع من النكران له.
مهما يكن للوجود الإنسانى من تميز، فإنه لا يخلو من التعقيد يتأرجح بين كائن رامز يستعمل اللغات بتعددها وباختلاف أشكالها ليكشف عن ما يريد من فكر وأحاسيس، لكنه قد يستعملها لإخفاء ما قد يضر به وبمصلحته وبصورته أمام الآخر.
اللغة بين الكشف والإخفاء تجعل الذات المفكرة تعيش حالة من الحيرة محاولة منها فك الشفرات وحل رموز الكائن الرمزى وكثيرا ما تنتهى محاولاته بالفشل حيث يستعصى الأمر حتى على الفرد نفسه الفهم والدخول إلى كهفه المظلم.
لقد ظن الإنسان أنه حقق من المعجزات كلما تباهى بما راكمه من إنتاجات مقتحما الكواكب بأقماره الاصطناعية ولكنه لازال يعجز عن عالمه الفريد والغامض وعن وجوده الذى يستفزنا للتأمل والإنصات له بالكثير من التمعن ولم تستطع تلك الأقمار اقتحام الكائن الرامز غير ما يفتحه التأمل من أبواب فى وجهنا ويدعونا للتفكير وتقديم قراءات تغرى الذات المفكرة بإثبات وجودها المستحق.