عادة عندما نتكلم عن الأسر كمجال للتماسك الاجتماعي، نتكلم عن العلاقة بين الأزواج وما يشوبها من طلاق أو تفكك أو هجرة، لكننا اليوم من خلال الواقع اليومى نشعر بضرورة وأهمية إثارة موضوع له وزنه فى مجال العلاقات الأسرية قلما ننتبه له و هو العلاقة بين الأخوة، وربما قد يكون سببا أساسيا فى انحلال الأسر. فما أساس تفشى ظاهرة الصراع بين الإخوة وانتشار التفكك الأخوى؟
لا شك أن وجود أخ يعنى وجود مجال للتشارك، تشارك الهوية والانتماء من خلال الاسم العائلي. أى الانتماء لهذه العائلة أو تلك وهو أكيد ما يجعل الشخص يشعر بالسند والامتداد الاجتماعى بحيث إن وجوده معناه وجود عم أو خال لأبنائى .
إننا نتشارك الفضاء الذى نعيش فيه والذى يعنى تشارك فى الممتلكات وتشارك فى نمط العيش من عادات و تقاليد وقيم .
إنها المرجعية الأسرية المشتركة والدلالات ومختلف التمثلات،لأننا ارتوينا من نفس المياه ونبتنا فى نفس التربة، ومع ذلك فهذا لا يعنى أننا صورة متكررة، غير أننا وإن كنا نعيش نفس الأحداث فإننا لا نفهمها بنفس الطريقة لأن كل واحد له حساسيته المختلفة تعكس حالاته المزاجية الخاصة.
الحقيقة أن كل مجال للتشارك هو أكيد مجال خلاف واختلاف، بل هو أيضا مجال أخذ ورد. إنه مجال مشادات يتطور ليصبح مجال صراع مما يؤدى إلى التباعد بعد كل محاولات التقارب. فما هى قواعد العلاقة الأخوية الإيجابية قبل أن تصبح مجالا للتطاحن؟
من منظور تربوى يكفينى الشعور بالأمان ليكون للأخ وجود ما يبرره، إنه الوجود الذى يخرجنى من تمركزى حول ذاتى والخروج من مشاعرى الانعزالية من خلاله نتعلم التعاون والتشارك. تدرك الذات أن وجودها يكاد يكون لاغيا بدون هذا الانفتاح، غير أن هذا الوجود تتخلله أكيد لحظات من المشادات منذ الطفولة المبكرة،وتنمو شخصيتنا فى ظل هذا الأخذ والرد ومراجعة للذات بشكل يومى من خلال مواقف مختلفة تعدّهم لتحديات الحياة المستقبلية. إذ لاشك أن كل مشكل يشكل أزمة بالنسبة لكل شخصية، وكل أزمة كما أكد علماء النفس تقتضى وضع تصور لها من أجل حلها، وبالتالى فإن كل صراع سيمنح الفرد إغناء شخصيته بل إنه يساهم فى تثبيت الأنا بلغة مدرسة التحليل النفسي.
عموما يتمظهر الصراع بين الإخوة فى البداية بشكل جسدى بالتطاول على بعضهم بالضرب او الاتهامات المزعجة والدعاء بالسوء وتسطير الألقاب داخل الأسرة . ومع ذلك يبقى الشجار ضرورة له ما يبرره فى حياة الفرد .
فالأسرة من حيث إنها النواة الأولى للتنشئة الاجتماعية فإنها مجال لتلقين المهارات الحياتية كمهارة التفاوض الناجح، ومهارة التواصل باستعمال اللغة بدل العنف اللفظى والبدني، بل أن الطفل يتعلم كيف يدافع عن نفسه وعن موقفه، يتعلم أن الوجود الاجتماعى هو مجال الاختلاف الذى لا يعنى ضرورة وجود الخلاف .
يتذوق الطفل طعم الشعور بالانتصار ويعرف معنى تقبل الهزيمة وفى ذلك مناعة سيكولوجية على اعتبار أن الإحباط مهم فى التوازن النفسى والاجتماعى بل إنه يدرك ضرورة تغيير أسلوبه فى التعامل والتنازل فى بعض الأحيان من أجل التكيف السليم مع العالم الخارجي. وكأن الأخوة مدرسة أو قناة تعبر من خلالها مبادئ التواجد الاجتماعى الإيجابى بالتدرب على مهارة النقد والتقييم الذاتى، وفى ذلك تطوير لقدرات الفرد وتنمية لملكاته.
لكن متى يصبح وجود الأخ يشكل تهديدا لوجودى أنا ومصدر قهر وتدمير تجعل منه أرضية خصبة لعلاقات مستقبلية متوترة بل وقطيعة تفجر فى شكل أزمة علاقات عائلية؟ ألا يمكن أن يكون التدخل غير السليم للآباء سببا فى تفجير أزمة مستقبلا؟
مما لاشك فيه تلعب الظروف فى تحديد أى علاقة سواء بين الأبناء مع بعضهم البعض أو بين الأبناء والآباء، وتتأسس روابط لها ما يبررها كحالة معاناة الابن من مرض يكون التعاطف معه والاهتمام الزائد به أمرا طبيعيا. فهل يمكن أن نحقق هذا التوازن فى التعامل مع الأبناء دائما؟ ألا يمكن أن نتكلم عن حظ البعض دون الآخر أو ربما قدرة أحد الأبناء على استمالة الآباء والاستفراد بحبهم الزائد والدفع بالآخر فى الهامش لاغيا وجوده متجاهلا حقوقه وأحاسيسه؟
ننطلق من كون أن كل فئة عمرية أكيد لها متطلباتها و حاجاتها السيكولوجية، ويبقى تباعد السن بين الإخوة قد يشكل أحد أسباب الصراع، فهذا طفل صغير يتم التغاضى عن زلاته وتجاوزها و فى المقابل التدقيق فى كل ما يفعله الكبير، وسيكبر هذا الصغير وستكبر امتيازاته لتصبح الامتيازات حقا مشروعا ويعتاد كلا الطرفين على الوضع. اعتاد الأول على التضحية واعتاد الآخر على الأخذ بنوعيه سواء كان ماديا أو معنويا.
وهكذا فمثلما يتم التمييز بين الإخوة على أساس السن أيضا يتم التمييز بينهم على أساس الجنس أو من هو أكثر جمالا أو ذكاء. والواقع كما أكد فرويد رائد مدرسة التحليل النفسى الأمور لا تنسى ولكن تكبت، ويبقى المكبوت ينتظر الأحداث والأشخاص ليظهر من جديد ولكن بصورة أقوى من الماضى بفعل التراكمات التى حفرت طريق التذمر وكل المشاعر السلبية.
و أمام هذا التفاوت فى الإمكانات والمهارات بين الأبناء، قد يتدخل الآباء فى الصراع فيرى فيه أحد الطرفين تحيزا والذى يعنى الحب الزائد للطرف الآخر و مع التكرار تتولد مشاعر السلبية من بغض و حسد و كراهية كمشاعر مدفونة فى أعماق الطفولة نجد لها صيتا عند الراشد فيتكلم الطفل بلغة الراشد لتطفو تلك المشاعر و تظهر العداوة و القطيعة بين أسر الإخوة الذين أصبحوا أباء اليوم، ليمتد الوضع على مستوى الأجيال.
والحاصل أننا نعيش أحاسيس ترسخت بفعل التكرار لتكرس معاناة حقيقية تنتقل لأبناء لا ذنب لهم سوى هذا الانتماء وربما عليهم أن يتكلموا باسم ماض لم يعيشوه وتتوتر العلاقات من جديد لتصبح تاريخا أسريا كل يتكلم عنه من وثائقه الخاصة، ويجتره بأحاسيسه العميقة.
مهما يكن الحب الذى قد نحاول تقديمه للتعويض فيما بعد فإنه سيكرس الوضع وسيؤكده، وكأن الصلح مع الماضى لن يأخذ طريقه إلا بالتصالح مع الذات من جديد والتخلص من الألم سبب توتر أو قطع العلاقات أو جفافها. لا يمكن وضع الماضى موضع نقاش كل واحد عاشه كواقع صارخ لازال صداه فى أذنه وإن تجاهله.
واقع الأسر اليوم يدعونا للتفكير فيه من أجل الحفاظ على التماسك الاجتماعى والدعوة إليه، ربما من خلال التغاضى ربما بالدعوة إلى القيم الدينية السامية، كل ذلك فى مصلحة الجميع لأن المكون الأسرى والعلاقات الاجتماعية الإيجابية مهمة فى التوازن النفسى والعيش الأفضل.
وإذا كان الهذيان من منظور سيكولوجى يعنى نوعا من التفكير الإنسانى فى صورته المرضية بمعنى صورة الضياع وإعادة تشكيل غير سوى للفكر، فهو عرض أساسى للمرض ومهم فى فهم البنية المرضية للشخص. لكننا حين نتكلم عن هذيان الأخوة فهو أكيد من أجل فهم البنية المرضية للأسرة وبالتالى المجتمع. إنه الفكر الحامل لأحاسيس سلبية تتشكل فى سلوكيات اجتماعية غير سوية.
وإن استعصى علينا تحقيق السعادة الأسرية فإن المطالبة بها والسعى وراءها أمر مشروع وضرورة ملحة حتى ولو فى حدود، وإن كانت العلاقات المادية هى ما يطغى على الجميع رغم تحقيقها نوع من الرفاهية فى العيش دون راحة وهدوء نفسى أكثر ضرورة.
عموما نعيش اليوم هذيانا أسريا وتفككا سيزيد الفرد انفرادية وانعزالا لن يرمى به إلاّ فى براثين الضياع والضعف والضغط الإضافى والذى لن يتجاوزه إلا بالتواجد الاجتماعى والعلاقات الاجتماعية الإيجابية.
إلا أن الهذيان الأسرى قد يكون له وجوها مختلفة غير الصراع، هو تحمٌّل البعض أخطاء البعض الآخر وتستمر الأخوة على حسابهم ويفضل الآخرون الاتكالية والكسل دون أية مبادرة لاعبين دور الضحية وقلة الحظ، وباسم الأخوة يفرض مساعدته اللانهائية دون أى محاولة حتى لإنقاذ نفسه وسيستمر الضحية الحقيقى من ينشد التماسك الاجتماعى الظاهر.
والحقيقة كان على الأخوة أن تبنى على أسس متينة غير ما نراه حاليا من بناء مهدد بالانهيار، بناء أساسه الحب والمودة والرحمة يقينا من كل تصدع أو تفكك، لازلنا نأمل ذلك دائما إيمانا منا بضرورة تأسيس مجتمع متماسك يشكل فردا متوازنا قادر على تحقيق سعادة فردية بعلاقات أسرية سليمة.