أذكر تلك الليلة التى استمعت فيها لأول مرة أغنية بدا لى أنها للمطرب "حكيم" من نبرة صوته المبهجة، وكان ذلك أثناء حضورى لحفل زفاف إحدى زميلاتى.
استمتعت حقاً بكلماتها الجميلة واستوقفنى مقطع يقول فيه حكيم بشجنٍ "ياما ناس تلاقى النعمة على الأرض وتدوسها، وناس غلابة تلم النعمة من على الأرض وتبوسها". أخذت أتفكر فى تلك المعانى الجميلة حول النعمة، ورأسى تهتز مع ألحانها الحزينة، إلى أن وجدتنى فجأة أنتفض من مكانى محركاً ذراعى هنا وهناك، وجسدى يتمايل ويدور لأشارك الحضور ردة فعلهم عندما قال حكيم "بابا يابابا يابابا". لم أدرك وقتها أنها أغنية فيلم "حلاوة روح" ، وهو الفيلم الذى أثار جدلاً عند عرضه لأول مرة، لما يحتويه من مشاهد جريئة تسببت فى وقف عرضه بقرار من مجلس الوزراء.
وكلمات الأغنية عن تعامل الناس مع النعمة ذكرتنى بما تربينا عليه فى الصغر من احترام وتقديس للنعمة، خوفاً من أن تزول ونُحرم رؤيتها .. ففى الأمثال يقولون "نعمة واللى يرفسها يعمى" .. كنا إذا سقطت قطعة خبز على الأرض نقول لبعضنا البعض "متدوسش على نعمة ربنا" و "شيل النعمة من على الأرض"، فننحنى لنرفعها من الأرض ونقبلها ثم نلامس بها جباهنا. تماماً كما يفعل سائقى سيارات الأجرة بأول حصيلة يستفتحون بها فى الصباح فيقبلونها ثم يلامسون بها جباههم ثلاث مرات. فى وسيلة للتعبير عن حُب النعمة وتقديرها. لذلك، قلما تجد رجلاً يُقبل زوجته فى الصباح أو حتى عند عودته إلى المنزل.
إن تقدير النعمة لم يقف عند تلك القُبلة فحسب، بل إن البعض إذا أراد أن يُقسم فيقول "والنعمة الشريفة" أو "على النعمة من نعمة ربي". وإذا قص لأحدهم شعره، قال له الآخر "نعيماً" ليرد الأول "الله ينعم عليك". وأثناء شجارهما، تقول الزوجة لزوجها "احمد ربنا على النعمة اللى فى إيدك" ليرد عليها "انتى عايشة فى نعمة مش حاسة بيها". وإذا رفض أحدهم عرضاً للعمل بالخارج، قالوا له "انت مش وش نعمة". أما إذا فرغ أحدهم من الطعام فيقول "اللهم دِمها علينا نعمة"، لذلك ستدوم البطاطس والعدس والفول أطعمة الفقراء.
فكل ما نعيش فيه من خير هو نعمة. وكل شيء جميل فى حياتنا هو نعمة. ولا يشعر بقيمة النعمة إلا من افتقدها. كما أن عدم المحافظة على النعمة والاستخدام الخاطئ لها يحولها إلى نقمة. ولا شك أن مصر بكل ما فيها من خيرات نعمة، ولكن ما نعيش فيه من سلوكيات خاطئة وفساد نقمة. أفلا نصون النعمة قبل أن نعمى؟.