ذات مساء .. بينما كنتُ ألملم خيباتى المتكررة، عثرتُ على تلك العرافة .
طلبتُ منها أن تقرأ لى المجهول .. تفحصت كف يدى وهى تنظر لى بعينيها الحائرتين ..وشوشت الودع ثم ألقت به على الرمل وأنا أقفُ أمامها اترنح بين حواسى الكاذبة والحقيقة الغائبة.
أغمضت عينيها وأخبرتني:
أيتها الصغيرة الحائرة ...سَيَطلُ عليكِ رجلٌ ما زال على سفر ...ويحملك على ذراعية ويأخذكِ بعيدًا عن مدينتكِ لينير حياتك ويزيل عتمتك.
همستُ إليها بصوتى المبحوح: قابلته ذات يوم وأنا فى طريقى إلى المجهول، لكنه لم ينير تلك العتمة الظاهرة .
تفحصتنى بعينيها قبل أن تبادرنى بسؤالها:
يا صغيرتى ...أعلمُ أن بداخلكِ بركان من الأوجاع ...هل لكِ أن تفتحى لى قلبك لأرى ما بداخله وعقلكِ لأقرأ هواجسه؟
جاوبتها بكل ثقة:
أيتها العرافة ... قلبى اليوم أصبح مُنهكًا ...ودفعنى الخوف من الفقدان إلى دروب الترقب عن بعد والوقوف على ناصية الخذلان..
هل أخبركِ عن فارسى ؟
كان حلم العمر .. ذهبتُ إليه بحصانى الأبيض الذى لا يخذلنى ليحملنى على ذراعيه إلى بلاده البعيدة، وكُلّى ثقةٌ بهِ وعندما طرق باب قلبى فتحته على مصراعيه لأمنحه الحب والأمان، وقد شجعنى بأن أطرق أبواب قلبه لكنه تركها مواربة لى . لا هى مفتوحة ولا هى مغلقة .يفتحها لى عندما يألف الحياة ويغلقها بوجهى عندما يشعر بالاعتياد.
لم يرى بداخلى ما رأيته بنفسى ...ولم ينصت مرة لصدى صراخ قلبي...
أيتها العرافة ..هل لى أن أخبركِ بشيء؟
فى غيبة الغياب رأيت ذلك الوجع محفورًا بوجهى الذى ذبل قبل أوانه .
انتظرته طويلًا ..انتظرته بشوقٍ ولهفة لينير عتمة قلبى لكنه تأخر ...تأخر كثيرًا فى الغياب.
رأيت بغيابه ما لم يراه قلبى بحضوره ...أتعلمين أنه كان يراهن على ذلك؟
راهن على اشتياقى وحنينى إليه لكنه لم يعى بحقيقتى مَرة . فأنا امرأة نسجت من خيوط العزة والكبرياء.
أخبرته قبل أن يرحل ..مّنْ أنا؟
أنا امرأة وقفت فى مهب الريح بمفردها ولم تخشى الظلام...
امرأة لم تخضع ذات يوم للحزن والأوجاع...
امرأة عندما تعطيك الأمان لتخترق حواجز قلبها فإن ذلك لا يعنى أنها منحتك الفرصة بأن تلعب على أوتار مشاعرها ولن تدعكَ تقترب من حواجز كبرياءها وكرامتها.
امرأة لا تقبل المقارنة بغيرها من النساء ..
أيتها العرافة.. لقد تركتهُ يرحل بعيدًا عني...
تركته يبحث عنّى وسط هؤلاء الحسناوات، ولن يجدني...
تركته يلاحقنى كل مساء بداخل عيونهن، ولن يَصِلَني...
فأنا لا ألومه على ما فعله بى لأن وجوده كان بدعه صنعه الاحتياج.
أقول لنفسي: ذات يوم إذا تلاقينا بمحض الصدفة سأمرر على مسامعه أنه مّنْ حَمَلَنى على النسيان.
وعندما يدرك الحقيقة الغائبة سأكون أنا قد عبرت الطريق وحدي
سأقطع تلك المسافات اللعينة بمفردى ولن انتظره وسأعزف بغيابه أصدق الألحان .
كل ذلك حتمًا سيمضى سريعًا أيتها العرافة وسأستيقظ ذات يومٍ من غفلتى لأهنأ بنعيم الوحدة التى كنتُ أبغضها ذات مساء.
من اليوم لن ألوم نفسى لأننى انتظرته كثيرًا حتى بات الانتظار لا يعنى لى سوى الموت فوق طرقات الغياب .
انتظرته ..وما أقسى الانتظار!
لكنه خذلنى ..
فبحثتُ عن ذاتى بعيدًا عنه فأنا لست ضعيفة كما تظنين أنا قوية بذلك القلم الذى استنجد به فى لحظات ضعفى لأسجل بحبره أوجاعى واستنجد بضجيج وحدتى لأرسم امرأة قوية تقف صامدة فى مهب الريح.
لملمت العرافة أشياءها ورحلت بعيدًا .. بعيدًا جدًا
فقد أدركت أنه لا مكان لها معي.
وتركتنى أخوض الحياة وحدي.