رأيته منذ سويعات فأيقنت أن الزمن يترك ندوبا لا تخطئها العين على ضحاياه من البشر .لقد أدركته مدرسا لامعا فى اللغة العربية يشق طريقه صاعدا فى مجاله , يقفز الطموح من عينيه , لكن تلازم طموحه مع سوء حظ كتوأمين وُلدا فى بطن واحدة .
حتى يوم سقطت تحت قدميه " إعارة " لدولة خليجية ,كانت حبل نجاة بعد شظف من عيش وبؤس كبيرين , فباع جميع ما يملك على ندرته واحتفظ بدراجته القديمة وشقته المتواضعة بحى شعبى لهاجس أرّقه وحذر استقر بداخله .
قال ونحن نحتسى فنجانى قهوة سوداء : قبيحة سنوات الغربة والأشد قبحا أن تدّخر كل قرش على أمل العودة والتمتع بما تجنيه ..
قلت : فعلا وسمعت عن كثيرين فعلوا مثلك فللغربة ثمن ولا ريب , وهززت رأسى أسفا ..
نظر متعجّبا وأكمل حديثه : لقد نسيت سوء الحظ واعتقدت أنه هجرنى مع الفقر وأن الدنيا قد دانت بعد جفاء . لكن هيهات .!
وكيف ؟
لقد عدت بعد سنوات تقترب من الثمانية من غربة مريرة ومعى مبلغ كبير من العملة الصعبة , خشيت عليها وعلى عمر ضاع فى اكتنازها فى وقت كانت شركات توظيف الأموال تملأ العين وتسد علينا منافذ الهواء ويتقدمها شيوخ أجلّاء نقدّرهم يروجون لعظيم فعالها وشرعية نشاطها , لكنى والحق قد ساورتنى مخاوف بشأنها وخشيت من الاندفاع وراء الوهم .
= قلت : أحسنت وفعلت الصواب ..
قال : ألا تصمت قليلا حتى أكمل لك حكايتى أم أنصرف ؟!
ضحكت على استحياء معتذرا , وأردف : هدانى تفكيرى إلى إيداع كل ما أملك فى أحد المصارف حيث الأمان للمال وإن قلّ العائد..
= فعلت الصح كعهدى بك ..
نظر إلى وقد احمرت عيناه غيظا , فالتزمت الصمت وأطرقت للأرض آملا فى خلاص من هذا الموقف , ثم استأنف حديثه : فأودعت مالى مصرفا أجنبيا بحثا عن فائدة أعلى ورغبة فى هدوء أتمتع به ما بقى من عمرى .. أودعت مالى " بنك الاعتماد والتجارة ".
هنا لم أتمالك نفسى فانفجرت فى نوبة من ضحك هيستيرى أصابتنى ولم أتخلص منها إلاّ بعد دقائق , واعتذرت بشدة , لكنى وجدته هادئا صامتا ينظر للفراغ بنهم عجيب , وقال: سوء حظ لازمنى طوال حياتى فقد ضاعت " تحويشة العمر " فى مصرف أشهر إفلاسه عالميا , مرّت بيننا لحظة صمت استمرت قرابة دقيقة ثم نظرنا لبعضنا وانفجرنا فى ضحك صاخب , قام وطلب بأدب أن أدفع له حساب القهوة وانصرف يتأرجح على دراجة قديمة تصدر صريرا كأنما تنعى سوء حظ لازمها مع صاحبها.