حورية من أهل الدنيا لها عينان تضيئان دروب الظلام داخل القلوب لتنير لهم طريق الأمل والسعادة والتفاؤل، اسمها براءة وهى حق قمة البراءة، فما أن يراها أصحاب القلوب البيضاء إلا وازدادت قلوبهم صفاء وبياضاً مثل الحليب، وعندما يراها أصحاب القلوب السوداء يصيبهم وابل من الصدمات التى تزلزل كيانهم وضمائرهم، فإن ابتسامتها تدخل فى أعماق المشاعر البريئة لترسم ضحكة طفل ما زال فى مهده حراً طليقاً لم تمسه أى من أبغاض وأحقاد الرجال بعد، كانت مسخرة من أجل إسعاد الآخرين، تنشر الرأفة والرحمة فى قلوب القساة والعتاة، تعلمت براءة علم الطب وبرعت فيه وتخصصت فى علاج الأمراض السرطانية وتوصلت إلى كيفية هزيمة المرض فحصلت على أعلى الأوسمة والنيشاين فى محافل العلم الدولية لجهودها العميقة فى علاج الأجساد التى أصابها المرض الفتاك فى دول كثيرة فى أنحاء الأرض واستطاعت أن تحجز لنفسها حيزا كبيرا وسط عمالقة العلماء الدين ساهموا فى تخفيف المعاناة فى نطاق مجال الأورام السرطانية،فاكتسبت احترام الصغير قبل الكبير فى أوساط مرضاها ومعلميها وأهلها وجيرانها فقد كانت تدعم الجميع باختلاف أجناسهم وعرقهم ودياناتهم فى فيضان من أعمال الخير والمودة فى عصر امتلأت فيه القلوب إما باليأس وإما بالأحقاد ,,, عصر امتلأت به الأرض بالكثير من أشرار البشر والذين فاقت شرورهم الوحوش الضارية وهيمنوا على أجزاء كثيرة من الكوكب العجوز، كانت روح براءة نقية تفيض فتغسل قلوب الطغاة لتلين ويعودوا إلى أصلهم الإنسانى، كانت مخلصة لربها وعملها وزوجها وطفلاها، لم يمنعها العمل عن تربية أبناءها وهيأتهم ليحفظوا كتاب الله فى سنوات قليلة مثلما حفظته فى صغرها، لم تعرف التضحية هذا المعنى من قبل إلا على يد براءة ولأن صيتها ذاع فى مصر والعالم، اختارتها الأمم المتحدة لتكون ضمن قافلة طبية فى مناطق الصراع فى الشرق الأوسط لتساهم فى تشخيص وعلاج ضحايا الحروب، واعترض الزوج متعللاً بالأخطار التى تهدد حياتها فرفضت وأقنعته بأنها لا تستطيع أن ترفض هذه الرسالة من أجل أن ترفع البأس والبؤس عن ضحايا الحروب، وقبل أن يمر الأتوبيس الخاص بهيئة الأمم المتحدة من منفذ رفح الحدودى استدعاها رجال المخابرات المرابطين فى مكتب إدارى بالمنفذ الحدودى وأعلموها بأن غزة المحتلة بواسطة العدو الصهيونى يعتبر مكان غير آمن رغم الهدنة المعلنة وتستطيع التراجع الآن، فأصرت على المضى قدماً لتلبى نداء الواجب رغم الخطر المتنامى من عدو لا يؤتمن، قتل كل معانى جميلة للحياة فى غزة وتركت أهلها ضحايا مجازر إما يتامى أو ثكالى يعيشون وسط دمار سببته آلة الحرب الصهيونية التى قضت على كل أخضر وملئت قلوب الأطفال بالرعب فى سابقة لم تحدث فى تاريخ الإنسانية أمام صمت ضمير العالم الذى وقف يشجب ويدين وهو يشاهد أشلاء جثث كل ذنبها أنها كانت تدافع عن حقها فى أن تعيش الحرية، أصرت براءة على أن تخوض هذه التجربة وشكرت لهم الاهتمام والخوف على حياتها وهى تذكرهم بآيات الله جلا جلاله ( لا تدرى نفس ماذا تكسب غدا ولا تدرى نفس بأى أرض تموت(
تحركت القافلة فى أتوبيس رحلات تابع للأمم المتحدة وخلفه سيارة محملة بأدوية ومساعدات لأهل غزة، وبعد أن عبرت منفذ رفح الحدودى التى تفصل غزة عن مصر وبعد لحظات بدأت تظهر آثار الدمار والخراب تظهر فى المبانى والطرقات وبدا الحزن ظاهراً فى عيون أفراد قافلة أطباء بلا حدود الذين تطوعوا من كل أنحاء العالم تضامنا مع أهل غزة وليساعدوا فى بث الأمل فى نفوس أهلها، وهم يراقبون من خلال نوافذ الأتوبيس مشاهد فى منتهى البشاعة، فى حين كانت عينا براءة تذرفان دموعاً لا تتوقف من هول ما كانت تشاهد الخراب والدمار الذى حل بالأرض وأخذت تتخيل الأحداث وطائرات العدو تقصف البشر فى الشوارع والبيوت تقتل الأطفال والشباب والنساء والشيوخ، وبعد وقت لم يكن هيناً للقافلة الطبية وصل الجميع إلى المستشفى الذى تأثر بالقصف الجوى لطائرات العدو الصهيونى، واستقبلوهم الأطباء والتمريض وكأنهم كانوا ينتظروا الغيث والدعم ومن ثم إقتادوهم للداخل وهم يشرحون لهم الأقسام المتواجدة وشد انتباه براءة أثناء سيرها فى الممر وجود صبى يرقد على فراش وجسده موصول بأنابيب وأجهزة الإنعاش الحيوى، فتوقفت أما زجاج الحجرة، وانتبه الجميع لتلك الحركة وتجمعوا فى حين أخذ طبيب المستشفى يشرح حالته بأنه كان يلعب على شاطئ البحر مع أقرانه حين هاجمتهم إحدى طائرات العدو وألقت عليهم قنبلة عنقودية تسببت فى مقتل كل أقرانه وحرمانه من ساقيه بل وأصابته مواد مشعة فجعلت جسده النحيل شاحباً بلون مائل للزرقة،لم يستطيع الحضور خصوصاً النساء من أن يبكوا لحاله بينما طلبت براءة الدخول لرؤيته فى حين منعها الطبيب لأنه تجرع توا جرعة مشعة ولا بد من إجراءات السلامة أولاً قبل الدخول، لكنها صممت وهى تفتح باب الحجرة وأسرعت إلى الملف المرضى الخاص به وفتحته وبدت تقرأ تقاريره وتحاليله وتنظر إلى آشعات إكس والرنين وغيرهما من الآشعات، ثم سألت عن أهله فأخبروها بأنهم نالوا الشهادة فى القصف المتوحش نتيجة هدم المنزل عليهم, فلم تستطيع براءة أن تكتم صرخة مكتومة لأول مرة تفقد الثبات الإنفعالى الذى كانت تجيده فقد شاهدت حالات مرضية كثيرة فى بلدها وكانت تتألم لهم ولكنها تسيطر على إنفعالاتها وتقوم بعمل برنامج علاجى يؤهل مرضاها إلى أن يكونوا أحسن مما كانوا عليه ويستطيعون أن يمارسوا حياتهم الطبيعية، لكن فى حالة هذا الصبى ياسر سألت نفسها مادا تستطيع أن تفعل له، لأول مرة شعرت إنها عاجزة أمام هذا الظلم الواضح، فى حين تحدث إليها الطبيب وهو يأخذ شهيقاً قوياً بأن هناك حالات أكثر مأساة من ياسر وقصص لا يصدقها خيال بشر، لم تبكى مثل ما بكت الأن وهى تلعن هؤلاء الصهاينة وما فعلوه بهؤلاء الأطفال وهذه البلاد ولعنت الأمم المتحدة واليونيسكو ومنظمة العدل الدولية وكل منظمات حقوق الإنسان، لعنت كل الحكومات والحكام، لعنت كل بشرى رأى أو سمع عن هذه المجازر ولم يتحرك ساكنا، تمنت لو لم تكن متواجدة فى هذا الزمان،
وشعرت بالاختناق وأسرعت للخارج لتستنشق الهواء وأخرجت هاتفها الخلوى وحاولت الاتصال بزوجها لكن بلا أمل فقد توقف الإرسال فى هذا المكان نتيجة لتدمير أبراج الإتصالات، وزاد انفعالها وسط بكاء صامت وهى تتضرع إلى الله بأن ينتقم من الصهاينة الخونة وهى تصرخ هؤلاء ليسوا ببشر أبداً وما كادت تهمس بلا حول ولا قوة إلا بالله، ودعت ربها أن يخلصها من ألمها إلا وحدثت مفاجأة لم تكن فى الحسبان، فقد كان هدير طائرات العدو وهى تشن غارة مفاجأة على المستشفى وأمطرته بالقنابل والصواريخ وفى أقل من ثانية أصبحت المستشفى كومة رماد على الأرض واختفت براءة من الساحة لوهلة وعند انتهاء غارة العدو ومغادرة الدخان والأتربة ظهر جسد براءة ممتد تحت الركام وقد تناثرت الدماء من حولها وكانت شهيدة لغدر الصهاينة،جثة هامدة عيناها تنظر إلى السماء، وصعدت روحها الطاهرة إلى بارئها وبينما نظرت براءة إلى جسدها الملقى تحت الركام وكانت تبتسم فى أعماقها فقد غادرت إلى عالم الحق , وفى خبر عاجل على شاشات التلفاز فى كل أنحاء العالم بكت الدنيا على فراقها وتم تكريمها وهى لا تحتاج تكريم البشر فقد كرمها خالقها، وأصبحت فى ذمة الله، استشهدت براءة فى معركة لم تكن طرفا فيها، وبكاها العالم وكل من ساهمت فى إحياء الأمل به، فى كل من كانت تدعمه، وبراءة ليست الضحية الأولى ولا الأخيرة طالما مات الضمير فى داخل البشر،