هنا لا شيء يتغير تقريباً .. الأيام الأخيرة تمضى كالوباء تنثر الجراح .. مضت خمسة وعشرون عاماً. عمر آخر، قطعته خروجاً عن الذات، بلا دافع يربطنى مع الوجود، بلا سبب للحياة .
تبدل حالى من النقيض إلى النقيض. غربة دفعت لأجلها ثمناً غالياً من عمرى .. أيام أخيرة تمتص ما تبقى من رحيق الحياة. أعد حقيبة سفرى كل ليلة، وأتركها خلف الباب. وإلى ذلك الوقت، سأجمع ما تناثر من فتات حنينى حتى لا تنطفئ ذاكرتي. سأحدق فى السماء السوداء منتظراً سقوط نجمة تضيء قلبى المختنق .. ضائع بين كلمتين .. غربة ووطن. عالق فى الهواء كدخان سيجارة، كبقايا قهوة راكدة فى فنجانى .
فى الغربة سر لا يعرفه العابرون فى فوضى اشتهائها، سرٌ وحيد، لنعرفه علينا أن نتعلم فنون الغربة المجنونة. لقد سئمت كطائر قيدوه إلى غصن كالقوس فى شجرة عملاقة، كعصافير الليل اليتيمة .
سأغادر إلى وطني، سأركض كالمذبوح أرمم روحى ..
غريب أمر هذه الحياة، وأملها القاسى .. فنحن نصدق كل أحلامنا وأوهامنا فى الغربة .. ونثق بما هو مبهم وغير واضح، رغم أن الحقيقة الوحيدة أننا نعانى فراق الأهل والوطن، نعالج الفراغات التى أحدثناها فى أرواحنا برقع صغيرة من الوهم .
وفجأة عدت إلى طرقاتى التى كنت اسلكها فى قريتى الصغيرة، الشوارع والطرقات، ذاتها، بأشجارها العارية، ودموع المطر، عناويننا فقط، هى التى تغيرت، ملامحنا فقط، هى التى تغيرت، أمشى تارة، وأقف تارة، عقارب الساعة تشير الى الرابعة عصرا، لم تشرق الشمس بعد، فمنذ الصباح تحجبها الغيوم، بعد دقائق قليلة ظهر قرص الشمس، فى قرص الشمس كنت أرى حبيبتى من ملكات العهد القديم، هى ترى نفسها قريبة الشبه من الملكة إيزيس، لم تنطق باسمى على شفتيها منذ زمن، سمعتها تنادى عليا مرات فى نهاية الطريق، وصلت الى دارى وقد تصدعت الجدران وتهالكت الأساسات وتبدلت الأركان، استندت على الحائط، وجلت بنظرى الى كل أنحاء الدار، أستعيد ذكرياتى، ليالى طويلة مصحوبة بدموع الفرح ودموع الفراق، مع نسمات الفجر، أتقلب فى فراشى جهة اليمين وجهة الشمال، كان هذا أضغاث أحلام.