قرأت بُعيد تخرجى فى الجامعة السيرة الذاتية لأستاذ جامعى مرموق ليس فقط لحبى لأدب السيرة الذاتية ولكن لحب استطلاعى لحياة أستاذ كبير أفادنى إفادة بالغة لن أنساها ما حييت من خلال اطلاعى على العديد من كتبه التى علمتنى وعلمتني، قرأت سيرته الذاتية بكل شغف واستمتاع وتبين لى بعدما قطعت شوطًا كبيرًا من سيرته الطويلة أنه تعرض لمحنة مرض عضال بل خبيث أصابه فى لسانه الذى هو مصدر رزقه – على حد تعبيره- باعتباره معلمًا كان يتمتع بصوت رنان فى قاعات المحاضرات، ذلك الصوت سكت لفترة ولما عاد لم يعد بالكفاءة ذاتها، لكنه صدح على أوراق الكتب المتعددة ليستفيد منه أجيال وأجيال لا حصر لها بدلًا من استفادة أجيال معدودة يمكن حصرها بعدد السنوات التى درَّس فيها وجلجل صوته ليعلِّم تلاميذه، فانبثقت من محنته فى المرض منحة الانتشار الواسع له والنفع الدائم أثناء الحياة وبعد الممات – أمد الله فى عمره- فكانت قصة أستاذى الكبير مثالًا على المحن التى فى طيها منح أو كما قال: "أتتنى النعمة فى ثوب نقمة".
وقد تأثرت بمحنة هذا الأستاذ المرموق أيما تأثر، لدرجة أننى اتخذتها درسًا نظريًّا طبقته عمليًّا – ولا أزال - على اختلاف المحن التى خضتها فى حياتى – أتناول كُلَّ محنة بعين الرضى المفعم بتأمل الغرض، واستيفاء الدروس المستفادة منها، واستخلاص العبرة، بل وترقب ما تطويه من منح. وبذلك زادنى أستاذى العظيم إنسانية بعد أن زادنى علما .
إننى أرى أن الإنسان عندما يتعرض لمحنة فهو أمام خيارين إما أن يتناولها بنوعٍ من السخط قائلًا العبارة المُهلكة "واشمِعنَى أنا" ليفتح على نفسه باب الشقاء وتنغيص العيش وانحراف المزاج وانقلاب الحال فيصيبه الإحباط بل اليأس والقنوط، ومع ذلك تستمر المحنة وتأخذ مجراها، فلا ينالُ منها سوى خيبة الأمل ؛ لأنه استحب سهولة السخط وما يمثله من شماعة يُعلق عليها ما أصابه، وبخِلَ على نفسه بمجهود الرضى وما يصاحبه من اطمئنان يؤهله - مهما كان الألم – لِلتَّدَبُّر، وإمَّا أن يتلقَّاها بجلدٍ وسعة صدر تمكِّنه من استقبال الدروس المستفادة والرسائل المُتَضَمَنة فما خُلق الإنسان اعتباطًا - فيما أعتقد - فخالقه بشئونه أعلم وبخيره أبصر .
وقد يمتحن الخالق الإنسان ليمنحه فرصة إعادة التفكير فى اعتقادٍ ما أو وجهة نظرٍ ما، تحجب عنه بعض حقائق الأمور، وقد يمتحنه ليهَبَه فرصة ذهبية للإنعام بنظرة شمولية لا تقتصر فيها رؤيته للأمورعلى زاوية واحدة فيُمنح تفهم الاختلاف مع غيره، ويدرك قصر رؤيته إذا قارنها ببُعد رؤية خالقه بعدما يلمس أن المحنة بالفعل فى صَميمِها منحة، فيزداد إيمانه.
وأخيرا .. لا أرى المحن إلا كالشوك الذى يحيط بالورد فيصونُهُ، ليفوح منه عطرُ العبرة والخبرة والحكمة والإيمان المُحقق بتدابير الخالق لشئوننا وكلما اشتمَّ الإنسانُ هذا العطر، ارتقى فى إنسانيته وزادَ قَدْرُهُ وعَلَتْ قيمته .