لقد كان رسول الله (ص) مهمومًا بأمر الفقراء من أمته، يحنو عليهم ويسهر على راحتهم . جاء رجل إلى رسول الله (ص) يسأله، فقال له: "اجلس سيرزقك الله". ثم جاءه أخر، ثم أخر، فقال لهم: "اجلسوا" فجاء رجل بأربع أواق، فأعطاها لحضرة الرسول (ص)، وقال يا رسول الله: إن هذه صدقة، فدعا الأول فأعطاه أوقية، ثم دعا الثانى فأعطاه أوقية، ثم دعا الثالث فأعطاه أوقية، وبقيت معه (ص) أوقية واحدة، فعرض بها للقوم فما قام أحد، يعنى جميعهم تعفف، فلمّا كان الليل وضعها (ص) تحت رأسه فجعل لا يأخذه النوم فيرجع فيصلي. فقالت له عائشة رضى الله عنها: يا رسول الله هل لك شىء ؟ قال: " لا " قالت فجاءك أمر من الله ؟ قال: "لا" قالت: إنك صنعت منذ الليل شيئا لم تكن تفعله، فأخرجها، يعنى أوقية الصدقة الباقية، وقال: "هذه التى فعلت بى ما ترين، إنى خشيت أن يحدث أمر من أمر الله ولم أقضها" وهذه اللمسة الإيمانية المقرونة بأمانته ( ص) على رعيته درس لكل ذى لب وكل من يتهاون فى حفظ الأمانات ويفرط فى توصيلها لأهلها، درس للأسرة وللأمة وللأب والأم فى المساواة بين الأبناء والبنات . قال تعالي: "والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون .." وقال تعالي: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ... " .
إذن كيف كان صلوات الله عليه يتصرف فى الأموال التى تأتيه من أنحاء الجزيرة؟ وكيف كان حال أهل بيته؟ لقد كان رسول الله (ص) متواضعا فى نفسه يرى أنه لا يملك من الأمر شيئا، وأن الأمر كله بيد ربه، وتراه فى غنى، تأتيه الإبل محملة بالخزائن، ويبقى مع ذلك محتاجا ولا توقد فى بيته نار لطعام لأيام طوال وكثيرا ما يطوى على الجوع ... وتراه قائدا عظيما ومحبا للسلام وشجاعا، وأيضا مشغول الفكر بجزيرة العرب، وفى نفس الوقت لا يفوته أمر من أمور بيته وزوجاته وأهله وأسرته، كما لا يفوته شئ من أمور الفقراء والمساكين، ويهتم بأمر الناس حتى الذين نسوا خالقهم وصدوا عنه فيحرص على إصلاحهم .. ورسول الله ( ص) حين يستقبل الأموال العظيمة، كان يضعها فى فناء المسجد أكواما ويوزعها على أهل الحاجة، وتأتيه بنته وفلذة كبده فاطمة تشكو إليه ما تكابده من حمل القربة والطحن بالرحا والرسول ( ص ) يومئذ يقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليه من عبيد وإماء فلا تنال ابنته من ذلك إلاّ الدعاء لها بكلمات يعلّمها إيّاها كيف تدعو ربها ليعينها على مشقة حياتها هذا وقد دخل عمر رضى الله عنه ذات يوم حجرة رسول الله (ص) فلم يجد فيها سوى حصير من خوص وصاع من شعير فبكى عمر، فقال له رسول الله ( ص) ما يبكيك يا عمر؟ فقال عمر: وما لى لا أبكي! أن قيصر وكسرى يتمتعان بالدنيا وينعمان بنعيمها، وأن رسول الله (ص) لا يملك إلاّ ما أرى !، فقال له النبى (ص): " أما ترضى يا عمر أن يكون نصيب كسرى وقيصر من نعيم الدنيا، وتكون لنا الآخرة خالصة من دون الناس "؟ عليك الصلاة والسلام يا رسول الله.
فكيف استحق رسول الله (ص) أن يكون قدوة وأسوة للناس جميعا فى جميع مناحى الحياة ناهيك عن الأسرة المسلمة؟ .
لقد كان رسول الله (ص): إنسانا بمعنى الكلمة، تتجسد فيه صفات الإنسانية فى أجلى معانيها، وهو مع هذا متبتل إلى الله منقطع عن الدنيا، فهو فى الدنيا وليس فيها، لأن قلبه لا يتعلق إلا بالله وبما يرضى الله، لم ينتقم من أحد قط لذات نفسه، وكان يدعو لعدوه بالخير، ولا يزال أيضا ينذر الذين قد صدوا عن سبيل الله . ومما لا ريب فيه أنه لا يستحق إنسان أن يكون قدوة للعالم فى جميع دروب الحياة، إلاّ إذا اجتمعت فيه مثل هذه الخلال الشريفة والخصال الإنسانية الكاملة مما يحتاجه الناس كافة فى معايشهم، فتكون لهم فى سيرته ( ص) أمثلة كثيرة وفى هديه أمور متنوعة، تستنير بها كل طوائف الإنسانية، فيتخذونه فى أنفسهم أدبا ومنهجا من حياته الشريفة لحياتهم الاجتماعية والأسرية والعائلية . وبذلك يكون الشخص العظيم المقتدى به هاديا للناس بأعماله وأخلاقه وخصاله، وقد ضرب رسول الله (ص) أروع الأمثلة فى السمو الأخلاقى رغم التحديات التى واجهته .
لقد كان رسول الله (ص) صاحب الشمائل الرفيعة، الذى يصلح من يتمسك بها أن يكون قدوة حسنة للناس أجمعين .. فهل يستطيع أحد أن يقيم من نفسه فى المجال الحضارى قدوة ( أى قدوي) مثل ما كان مع حضرة النبى (ص) .
إن أخر جملة تتحدى بها الحضارات الإسلامية جميع نظم الحضارات، أن سيدنا رسول الله (ص) قال فى أخريات حياته: " من كنت قد جلدت له ظهرا، فهذا ظهرى فليستقد منه " والمقصود " فليقتص منه" فلم يجد (ص) واحدا من جموع أمته، يقول له (ص) لى عندك قَوَد رغم طول الممارسات السياسية والاجتماعية وغيرها. وهذا لعمرى هو المفهوم الحضاري، وهوالذى يستطيعه إنسان أن يحصل عليه فى القديم أو الحديث .
درس فى القدوة للفرد والأسرة والمجتمع، درس فى دماثة الخلق، والتواضع والزهد، درس للمصرّين على ركوب الخطأ وعدم الرجوع إلى الحق، مع أن الرجوع إلى الحق فضيلة، درس لكل ربّ أسرة ولكل من يتولى أمرا من أمور الحياة أن لا يتمادى فى الخطأ وأن يبادر دائما إلى التوبة والأوبة، فتلك من المكرمات، وذلك من السمو الأخلاقي، " لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا ".