16 عاماً على الاستهلاك السياسى والإعلامى لكلمة "الإرهاب الإسلامى"، ذلك الاستهلاك الذى وصل ذروته عقب الربيع العربى وخاصة السورى منه، حيث تفكك وانهيار سيادة الحكومة فى دمشق على أراضيها تلاه مباشرة إصابة العراق بذات العدوى ليصبح العراق وسوريا جسداً ضعيف المناعة أمام ما يدعى "تنظيم الدولة الإسلامية".
لا شك أن حادث 11 سبتمبر مَثّل نقطة تحول بالغ الخطورة ليس فقط على أرض الشرق الأوسط وإنما على المستوى العالمي، ومع تلاشى العدو السوفيتى كان ولابد من خلق عدو جديد ألا وهو (الإسلاميين).
وبدون استفاضة فى خريطة الحركات الجهادية الإسلامية ومَن انشطر عن مَن، شرق أوسط جديد مفكك يحمل رايات أعلام دول جديدة مثل جنوب السودان وكردستان بات الطموح الأكبر لدى الإدارة الأمريكية.
بورما.. الظل البعيد للإرهاب البوذى!
لكن.. 9 آلاف كيلومتر بعيدًا عن الشرق الأوسط، وفى صورة معكوسة، ميانمار التى عاشت لقرون على أطراف الهوية الهندية، وتحت مطرقة الحكومات العسكرية الثقيلة، يواجه الأقلية المسلمة هناك أبشع صور الإرهاب الممارس ضدهم منذ 25 أغسطس الماضي.
هل هو إرهاب.. سؤال جذرى يبحث عن إجابة لا يمكن الوصول لها فى ظل سيطرة القوى الغربية على دوائر الأكاديمية والإعلام والسياسة العالمية، تلك السيطرة التى فرضت على العالم صيغة واحدة لتوصيف الإرهاب وزعم أن الزواج بينه وبين الإسلام زواجاً كاثوليكياً رغم كونه افتراء فى زمن ترتكب أمم أخرى لا علاقة لها بالإسلام جرائم تشتد ضراوة وإرهاباً.
راخين فى أقصى الشمال الغربى لهذا الدولة، وعلى حدود قاسية مع بنجلاديش، عاشت الأقلية المسلمة "الروهينجا" على أرض امتلأت بالتناحرات الدينية مع جيرانهم البوذيين والهندوس مُستبعَدِين من حقوق المواطنة كافة.
هذه المنطقة من العالم كانت امتداداً جيوسياسياً حيوياً للهند على مدى أكثر من ألف عام، ومع دخول الإسلام على يد العرب الفاتحين فى الهند، هاجر إليها العرب وظلت تترنح فى ظلال الحروب الضارية التى شهدتها الهند بين ممالك المغول المسلمين والممالك الهندوسية منذ القرن الرابع عشر.
ما يحدث اليوم من تصفية عرقية للمسلمين فى ميانمار ليس بجديد، لكن عدد ضحاياه يمثل طفرة فى الخلافات الطائفية بالهند وجيرانها البوذيين.
أكثر من 300 قرية مسلمة تم حرقها من إجمالى 578 قرية، أكثر من 800 ألف لاجئى نزحوا من تلك القرى هرباً لمعسكرات اللجوء فى بنجلاديش ولا يزال عدد القتلى غير محدد حتى الآن، بل تلك الأعداد فى تزايد يومياً.
والأهم هنا، رصد خريطة رد الفعل العالمى تجاه ما يحدث هناك منذ ثلاثة شهور، سنجد أن كافة تصريحات مسئولى الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والاعلام الغربى لا تستعمل على الإطلاق لفظ (الإرهابيين البوذيين) أسوة بـ (الإرهابيين الإسلاميين) مما يؤكد ازدواج المعايير فى السياسات الغربية، نعم ممارسات وجرائم متطابقة فى راخين البورمية وبئر العبد بسيناء رغم المسافة الجغرافية الشاسعة بينهما لكن المسمى المُستعمَل لمرتكبى جرائم الإرهاب فى كلاهما مختلفة تماماً.
ولتحليل ذلك، لابد من التفرقة بين ردود الأفعال داخل ميانمار وخارجها، ففى الداخل، تعمدت الزعيمة البورمية أون تشى عكس الصورة تماماً بتصريحات فى لقاء متلفز لها تؤكد على أن الجيش البورمى يواجه حفنه من الإرهابيين فى البلاد، وذلك بعد أن فشلت فى نفى جرائم التصفية العرقية التى يرتكبها جنرالات الجيش ضد مسلمى الروهينجا والتى وصفته بالأخبار كاذبة، بل وذهبت لأبعد من ذلك وفق ما نشرته الاذاعة البريطانية باتهام مسئولى الأمم المتحدة بنشر تلك الأكاذيب.
تشى تشغل الأن منصب مستشار لرئيس البلاد وهو يعادل منصب رئيس الوزراء وحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 1991، وبعد تلك التصريحات، طالب الكثيرين سحب جائزة نوبل منها.
ولا أرى ذلك الموقف غريباً، فالزعيمة البورمية تنتمى للأغلبية البوذية التى تسيطر على مقاليد السلطة فى العاصمة نايبيداو، لكن رد الفعل خارج بورما رغم اختلافه تماماً عن الداخل البورمى الممتنع عن الاعتراف بجرائم الجيش إلا أنه لم يصف مرتكبى المجازر فى راخين بـ (إرهابيين بوذيين).
فعلى الصعيد الإعلامي، غطت كافة وسائل الاعلام الغربى مثل شبكة الـ "بى بى سي" و "سى أن إن" و"فرانس 24" ما يحدث فى راخين بدقة سواء فى نوعية الجرائم أو أرقامها التى يصعب الوصول لها لحظر الجيش البورمى سفر الإعلاميين للقرى المنكوبة. لكنها لم تستعمل قط لفظ (الإرهاب البوذي) بل اقتصرت على وصف مرتكبى الجرائم ضد مسلمى راخين بـ (قوات الجيش)، واستفاض بعضها فى الممارسات المنتهكة لحقوق الانسان داخل الجيش البورمى مثل تجنيد الأطفال مقابل 40 دولار و"كيس أرز أو صفيحة بنزين" لأولياء أمورهم كما أوضحت صحيفة الإندبندنت البريطانية.
أما على الصعيد السياسي، وصف بابا الفاتيكان يوم 26 أغسطس ما يحدث فى ميانمار بالأخبار الحزينة!، أما فى أمريكا فقد وصفها وزير خارجيتها تيلرسون يوم 14 سبتمبر بأحداث عنف وهو نفس الوصف الذى استعمله الرئيس ترامب، لكن نائبه مايك بينس قد فضل استخدام لهجة أكثر حدة ليصف ما يحدث بالفوضى المهددة للسلام فى الاقليم.
فوضى وعنف.. هكذا نظر الغرب ساسة وإعلام لمجازر ميانمار التى دفعت أكثر من نصف مليون إنسان للنزوح مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام لبنجلاديش!!
متى يُقلِع العالم عن إدمان مصطلح "الإرهاب الإسلامي" والمعايير المزدوجة.
سؤال اليوم قد تطرح إجابته واقعاً مغايراً غداً؟