القرار الجمهورى الأخير بزيادة الجمارك على بعض سلع الرفاهية والأجهزة الكمالية بنسب تتراوح ما بين 20% إلى 40%، أثارت موجة متباينة من ردود الأفعال والتصريحات المتبادلة بين مختلف فئات المجتمع.
ففى حين ذهب جهاز حماية المستهلك إلى اإتشادة بأهمية القرار وتوقيته الناجح لتشجيع الإنتاج المحلى وتقليل الاستيراد، مع تأكيد الجهاز على تدخله للسيطرة على الأسعار بعد زيادة الجمارك، نجد على الجانب الآخر أن اتحاد الغرف التجارية أكد على أن تلك الزيادة سوف يتبعها زيادة مماثلة فى الأسعار بما لا يقل عن 25% وأن محدودى الدخل هم من سيتحملون وحدهم تكلفة تلك الزيادة!
الانقسام أيضا وصل إلى خبراء الاقتصاد أنفسهم، فبينما بارك البعض فى الزيادات الجديدة وقدرتها على تقليل الواردات، ذهب البعض الآخر إلى التشكيك فى جدوى تلك الزيادة، بناء على افتراضات النظرية الاقتصادية وبأن فرض مزيد من الرسوم على سلع غير ضرورية وفى ظل عدم وجود بديل محلى "مناسب" لنفس السلع لن يغير فى مستوى الاستهلاك من شىء.
وما هى سوى أيام قليلة حتى تحول الجدل ذاته إلى الحديث حول الارتفاع المتزايد والمستمر فى سعر صرف الدولار مقابل الجنيه، فالفارق الكبير بين سعر الدولار بالبنوك ومكاتب الصرافة وبين نفس السعر بالسوق السوداء (ما يقرب من جنيه ونصف) هو أيضا دليل على عدم توازن واستقرار سوق العملة نفسه.
الانقسام نفسه يظهر كذلك فى مشكلة ارتفاع سعر الدولار، فبينما تتعالى صرخات الغالبية من أن تلك الزيادة المستمرة فى سعر الدولار تضر بالاقتصاد الوطنى عامة ومحدودى الدخل بوجه خاص، كنتيجة منطقية لتأثير تلك الزيادة على أسعار كل الواردات السلعية، نجد أن البعض الآخر، يرى أن فى انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار ميزة تنافسية يمكن أن تحقق لمصر العديد من المزايا إذا ما استخدمت بشكل صحيح من خلال تشجيع الصادرات المصرية وزيادة حجمها.
فالحرب الأمريكية الصينية المشتعلة منذ سنوات حول سعر صرف الدولار مقابل اليوان الصينى، وتعمد الصين إلى تخفيض قيمة عملتها بأقل من قيمتها الحقيقة مقابل الدولار، حتى تتمتع صادراتها بانخفاض أسعارها فى الأسواق العالمية، هو خير مثال على أن انخفاض قيمة العملة ليس بالضرورة يعبر عن أزمة اقتصادية على الأقل بالنسبة للطرف الفائز فى هذه المعادلة وهى الصين، وربما يعد التعبير الذى أشار إليه الاقتصادى الأمريكى جوزيف ستيجلتز الحائز على جائزة نوبل بأن "الصراع الاقتصادى بين أمريكا والصين أشبه بعلاقة زواج فاشلة بين رجل وامرأة لا يستطيع كل منهما أن يترك الآخر ويرحل يلخص فى معناه حرب العملة المستمرة بينهما منذ عقود .
الأزمة فى مصر وإن كانت تحمل طابعا خاصا، لا يمكن أن نقصرها فقط على قرارات جمركية يتم اتخاذها بين حين وآخر أو على تغير سعر الدولار الذى ينتج فى النهاية عن تفاعل لقوى العرض والطلب بالسوق، وإنما على توجه ورؤية اقتصادية شاملة مطلوبة بشكل فورى خلال المرحلة القادمة، فالموضوعات الخاصة بزيادة الصادرات وتنشيط السياحة ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة وزيادة دور البورصة المصرية كسوق موازٍ للاستثمار لا تزال تحتاج جميعها إلى تغييرات جوهرية بديلا عن تلك القرارات "المُسكنات" التى لا تتم دائما إلا فى أوقات الأزمات فقط.
أيها السادة، إن الأزمات الاقتصادية القادمة لن يمكن مواجهتها إلا من خلال اقتصاد قوى ومتوازن تشكل المعرفة أو "Knowledge" فيه المكون الأساسى، أما ذلك الاقتصاد الاستهلاكى فقط فلن يتحمل كثيرا، فإنه وللأسف لا يوجد مكان فى المستقبل لهذا النوع من الاقتصاد "أبو سبعة ونص" !!!