تزوجتُ فى البلدة المحتلة من قبل أصوليين متشددين .. وفى ليلة ذات بأس أتانى مخاض عسير كنت أعض على يد يوسف لكى لا يسمع الأصوليون صراخى فيعلموا بقدوم الطفل فيأخذوه منّا بحجة أننا غير مؤهلين لتربيته .. لم أصرخ وكأننى كُوفئت بمعجزة أخرى.. فبينما كانت تُخرج الداية الطفل الأول لمحت جنينا اخر ينتظر دوره فى الخروج
ابشرى يا آمنه إنه توأم.. ماذا ستسميهما يا يوسف؟
.. ليكونا الحسن و الحسين-
..بميلاد الطفلين و مخاوفى المعلنة و المستترة أخذت فى الاتساع و الكبر
وأنا لا حيلة لى إلا الالتفاف حول الطفلين .. كلما سمعت صوت طائرة مروحية .. أو دبابة صهيونية .. أو تأخر يوسف فى العودة إلى البيت.. كنت أبكى مع الطفلين.. بكاء جوع.. بكاء رهبة.. بكاء ألم فى المعدة.. بكاء الصقيع الذى سكن قلبى يوم ميلاد الطفلين تجاه القضية و الوطن .. من ينصر الوطن يا آمنه ؟ يسألنى يوسف فى كل مرة أحدثه فيها بشأن فرارنا إلى المدينة الواقعة خلف السور-
من ينصر الوطن يا آمنه؟
..فأجيبه.. لا يستطيع ولدى فعل المستحيل يا يوسف..
هل خذلناك يوما يا آمنه؟-
القضية ليست من خذل من يا يوسف..؟ أنا أم ٌخائفة.. خائفة من أن ينهدم بيتى على طفليّ.. ليس على حجر البيت أخشى.. إنما على طفلى هاذيين-
أحياء عند ربهم يرزقون " يا آمنه"-
..و نعم بالله يا يوسف-
..فى تلك الليلة لم يتوقف حديثى مع يوسف عند هذا الحد كما كان يتوقف فى كل مرة
أكملت.. " ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به " يا يوسف
..ليكن لك ما تشائين يا آمنه.. اذهبى إلى المدينة الواقعة خلف السور يا آمنه-
و ماذا عنك يا يوسف.. ألن تأتى معنا..؟-
..سأبقى أنا و أحد الطفلين.. ستختارين منهما من تشائين يا آمنه-.
أنت تمزق قلبى يا يوسف-
لعل أحدهم ينجو يا آمنه-
لماذا لا ننجو جميعا يا يوسف؟-
اختارى أحدهما قبل أن أغير رأيي-
..لن أختار سأدعهما يختاران مصيرهما-
كان قد أتما السنة الأولى قبل شهرين من الآن.. وديعين.. بريئين.. أحدهما سيذكر أنه كان لديه أم أحبت أخاه أكثر منه.. دعوت التوأم للحضور إليّ.. كانا فى بداية تعلمها للمشيء.. و كنت أنوى أنه من سيأتى إلى فهو أكثر محبة لى و اعتمادا علي.. فسوف أخذه معي.
عندما دعوت الطفلين.. نظرا تجاهي.. و تسابقا نحوي.. بينما يخطوان خطواتهما نحوى كان قلبى يُمزق بسكين تلم.. و بينما أنا أراقب الطفلين سقط الحسن.. فهرعت إليه.. ضممته نحوى بقوة.. أخذت ابكيه و أبكى أخاه و نفسي
..سأترك لك الحسين إنه الأكثر قوة ليس بحاجة إلى كحاجة الحسن لي
احتضنت الحسين و يوسف معا
بالله عليك فكر فى الأمر مجددا يا يوسف-
لو فكرت لن أدعكما ترحلان-
لا أرجوك.. على الأقل قد ينجو أحدهما-
ما أن وصلنا إلى المدينة الواقعة خلف السور.. حتى بدأ الحصار
حصار كيف.. هنا لا أصوليون و لا متشددون.. .؟
هنا أخ أكبر يحاول النيل من متمردى الدولة و المرتزقة.. و الفوضويين
ثلاثة أشهر.. وقد كف الجميع عن تصميد الأموال .. اذا لن يملك وقتا لاحقا لإنفاقه .. كما أن المال أصبح بلا قيمة .. فلا سلع متوفرة.. و لا أدوية
..لو أن أحدهم يستطيع إعادتنا إلى يوسف و الحسين
نحن لسنا المستهدفين من هذا الحصار.. لقد أتيناكِ فرارا من الموت.. أفلنقى الموت بين يديكِ؟
..جف لبني.. و هزل ولدي.. و تمكنت الكوليرا منه.. و بينما هو ينظر إلى بلوم.. أظنه يريد الموت فى أرضه
دخلت المستشفى و أنا أحمل بين بيدى ولدي.. أصرخ فى طاقم الأطباء و التمريض.. الذين يدعون أنهم يواجهون المرض بلا سلاح.. يواجهون الوباء بدون خطة.. سوى الاستسلام الحار والتسليم بأننا فعلنا كل ما هو فى وسعنا
و ما الذى هو فى وسعنا.. انتظار الموت..؟
و بينما الحسن يلفظ أنفاسه الأخيرة يخرجنى من جنونى صوت المراسلة التى تغطى الأخبار فى البلدة المحتلة.. سقوط قذيفة هاون صباحا على المنطقة بقرب الجامع.. انظر إلى التلفاز الذى ينقل للعالم صورة يوسف و بين يديه الحسين شهيدا مغطى بالدم
انظر إلى الحسين.. أحياء عند ربهم يرزقون
يلفظ الحسن أنفاسه الأخيرة.. ولدا معا و ماتا معا
أحمل جثمان الحسن الطاهر الذى لن أغسله.. لأحاول تهريبه عبر المعبر ليدفن فى أرضه بجوار أخيه
..المعبر مغلق.. و لا أمل فى العبور
""تمكنت منى الحمى.. دفنننا الغرباء.. وضعوا فوق قبرنا حجرا.. نقشوا عليه وصيتي.."" أحياء عند ربهم يرزقون.. بعد أن يفتحوا المعبر ادفنوا الحسن بجوار الحسين فى أرضنا الأبية.
كانت تلك وصيتى التى وصيت بها جارتى فى صف الانتظار الطويل عند باب المعبر التى أظن أنها هى الاخرى لن تصمد طويلا.. أتمنى أن توصى بوصيتها و وصيتى إلى أحد قد يصمد طويلا.