يقول سيدنا سليمان الحكيم فى سفر الجامعة فى التوراة "لأن فى كثرة الحكمة كثرة الغم والذى يزيد علما يزيد حزنا".
ويقول شاعر العرب العظيم.. المتنبى:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل .. عما مضى فيها وما يتوقع
قبحا لوجهك يا زمان فإنه .. له من كل قبح برقع
مما لاشك فيه أننا نحمد الله دائما على نعمة العقل، لكن هذا لا يمنع أننا أحيانا كثيرة نتمنى أن تتوقف عقولنا عن التفكير فى الحاضر والآتى ولو لساعات قليلة.. نعقد فيها هدنة مع أنفسنا ومع الحياة والزمن لنستعيد طاقتنا وقدرتنا على الاستمرار فى طريق الحياة الطويل الصعب, وهذا ما يسميه علية القوم من أصحاب الملايين والمشاهير الـ "Meditation"أى "التأمل" ويأخذون فيه دروس تكلفهم الآلاف من الجنيهات، لتستريح عقولهم قليلا من عناء الملايين وحتى لا تهوى أرواحهم فى هوة سحيقة بسبب متع الدنيا وملذاتها والتى قد تودى بهم إلى الإنتحار بعد أن يستنفذوا كل المتع ويشعرون بالملل والكآبة أو جرعة مخدرات زائدة تنهى حياتهم، يالهم من تعساء بؤساء يشقون بثرائهم الفاحش !! و لهذا قد نحسد أحياناً عندما نرى أحد الدراويش، و هو يفترش الأرض غير عابئ إذا كانت نظيفة أو قذرة.. فمهما كانت النتيجة فهى بالطبع أكثر نظافة من ملابسه الرثة التى لم تعرف طريقها إلى الماء و الصابون منذ شهور .. وربما جسده أيضا يتقاسم مع ملابسه نفس الحال .. تراه نائما بشعره الطويل الذى لم تدركه عوامل التعرية والزمن .. فقد أصبح مع العرق والأتربة كتلة واحدة كالبنيان المرصوص.. لن تستطيع أن تفرق بين شعرة وأختها .. ولحيته الكثة المجدولة أحياناً بسبب الأتربة و العرق أيضاً .. واضعا إلى جواره عصاه التى ترافقه فى حله و ترحاله .. غير مكترث بما حوله من ضوضاء و ضجيج و زحام .. قد يكون المولد أكثر هدوءا منها .. غير مهتم بهذه الأجساد البشرية المتلاطمة كموج البحر .. المهرولة فى طريق الحياة و البحث عن لقمة العيش دون التوقف لإلتقاط الأنفاس أو حتى مجرد التفكير فى الخروج عن الخط الذى رسمه لهم القدر .. أو غيرهم من البشر .. و لكن قلوبهم من حجر .. لا تعرف سوى الطمع و الجشع و الاعيب الخداع القذر ..
فلم يتركوا لهم سوى فتات الفتات و قلوب من الهم و الحزن تعتصر ..
دعهم يهرولون فى طريق الحياة الوعر .. طريق الحياة الملتوى الخطر ..طريق الحياة التى قد يجعلهم ينسوا أو يتناسوا أنهم بشر .. و دعه هو .. الدرويش .. سارحا أو سائحا فى ملكوت الله .. لا يشغل باله الطعام .. فطيور السماء تجد قوت يومها .. و غير مكترث بحسن مظهره .. فالملابس لم تكن لتوجد إلا لستر العورة ..و لا يهم إن كانت جوال من الخيش أو من أحد بيوت الأزياء العالمية .. لا يهم إن كانت لديه أفخم السيارات .. فوهبه الله قدمين يحملانه من بلاد الله إلى بلاد الله ..
لهذا كله نحسد الدرويش أحياناً .. الذى لا يحمل للدنيا هما، ولا يسوءه منها غما .. على الرغم من أننا لا نعلم متى و كيف أصبح هذا الرجل درويش .. و ماذا كان قبلها .. وزير أم غفير .. طبيب أم حبيب .. و لكن بالتأكيد لم يحتمل عقله و ذكائه مهازل الدنيا و خداع أهلها و دناءتهم .. فقرر أن يعيش "خارج الدنيا" .. تاركا لهم الدنيا لينعموا بكل ما يجنوه بالكذب و المكر و الخيانه .. و إن اقتضى الأمر .. الذل والخنوع و المهانة .